محمد علي فرحات 

ثلاثة مشاهد لحكمت قصير: الأول في زحلة أثناء تكريم الشاعر جوزف الصايغ ونصب تمثال له في حديقة الشعراء. هناك كان حكمت حاضراً بأناقته وشيخوخته النورانية. اللبناني (من مدينة صور) والسنغالي والفرنسي، المتمسك بعروبة حضارية فوق الأحزاب والعصبيات، رأى في زحلة حضناً للغة العربية فكرّمها من خلال أبنائها، خصوصاً سعيد عقل وجوزف صايغ.

المشهد الثاني في معرض كامل مروة و «الحياة» الذي أقيم في أسواق بيروت. وبين الصور والوثائق المعروضة هذه الشهادة لحكمت قصير: «كنتُ لا أزال شاباً يافعاً عام 1938 عندما جاءنا إلى دكار النائب رشيد بيضون بصفته رئيساً للجمعية العاملية ومعه كامل مروة. كانا يهدفان إلى حث المغتربين على التبرُّع للجمعية، فنظّمت لهما الجالية اللبنانية هناك ولائم واستقبالات، وبرز كامل خاصةً لكونه خطيباً مفوّهاً.

رآني كامل وهمس بأذني: «بدي أحكي معك بموضوع بس مش هلق، تعا عندي عالأوتيل بكرة». ولما التقيت به في اليوم التالي، قال لي: «عندنا قضية اسمها القضية الفلسطينية وهي مقدسة وقد تجر ويلات على كل العالم العربي. وأريد أن أوجد محطة بعالم الاغتراب لجمع المساعدات لهذه القضية ودعمها من خلال علاقاتكم مع السلطات». كان على صلة مع الحاج أمين الحسيني، وكأنه أحب أن يوسع نشاطاته في الخارج. قلت له لا مانع لدي. كان معه قسم. قسم الحزب القومي العربي. قال إنه تنظيم سري. قرأت القسم وحلفت اليمين. وهكذا بدأنا نجمع المساعدات ونرسلها إلى المؤسسات الفلسطينية المختلفة، وبقينا على ذلك لغاية السبعينات. عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية. فذهب كامل إلى ألمانيا مع الحاج أمين وبقي هناك حتى انتهت الحرب في 1945.

بعد عودته بنحو سنة أرسل إليَّ يبلغني انه آت إلى دكار. وعند وصوله قال لي: «جايي لعندك بمشروع خاص. بدي أعمل مطبعة للجريدة ببيروت. بدك تجمع لي اللبنانيين اللي بيحبوا يستثمروا حتى نعمل شركة مساهمة ونطور الجريدة». كنت وقتها رئيس جمعية المغتربين العرب في دكار، وبحكم هذا المنصب وجهت دعوة إلى المغتربين القادرين للقاء كامل في أحد الفنادق. جلس كامل إلى طاولة وأمامه ميكروفون وأنا إلى جانبه. ولما طرحت موضوع دعم الجريدة، تحمس الحاضرون وسألوه عن المبلغ المطلوب للتجهيزات. قال كامل: «ثلاثة ملايين ليرة لبنانية». فأخرج بعضهم دفاتر شيكاتهم، وجمعنا جزءاً من المبلغ المطلوب. بعد ثلاثة أشهر اتصل بي من بيروت قائلاً: «أنا راجع لعندك. المبلغ الذي جمعناه لا يكفي». أتى إلى دكار، وعرض على المساهمين مضاعفة التزاماتهم، فوافق بعضهم، وتلكأ البعض الآخر. وبالنهاية تقرر تحويل المساهمات إلى قرض جماعي، يقوم كامل بإيفائه على دفعات عن طريقي. وهذا تماماً ما حصل.

كانت تصل أعداد «الحياة» إلى دكار بالطائرة من باريس أسبوعياً. كان الأهم خطها السياسي. كان كامل يدافع عن القضية الفلسطينية وكان المغتربون متشوقين لدعم فلسطين والاطلاع على أخبارها وخفاياها.

عندما اغتيل عام 1966، كان الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور في بيروت فأجرى له الرئيس شارل الحلو عشاءً رسمياً في فندق البريستول وكنت حاضراً. قال سنغور للحضور: «أود أن أحضر جنازة كامل مروة غداً». ولكن الجهات الأمنية منعته يومئذٍ من المشاركة بحجة الخطر على حياته».

والمشهد الثالث لحكمت قصير في صالون النائب علي عسيران قرب مدينة صيدا، حيث حكمت في الإطار الذي يحب. نخب من طوائف متعددة تلتقي على حفظ المشترك الحضاري ليستطيع لبنان تفادي حريق الجوار العربي.

وقبل المشاهد الثلاثة، حكمت قصير مع جمال عبدالناصر، استقبله الرئيس المصري في عداد وفد آت من السنغال، ثم اصطفاه وحده عندما علم انه لبناني. ومما قال عبدالناصر لقصير يومها إن الرئيس فؤاد شهاب رجل حكيم استطاع حماية لبنان من تداعيات الوحدة السورية- المصرية وتداعيات الانفصال السوري.

ووري حكمت قصير أمس ثرى مدينته صور، مناهزاً التسعين ومقارباً المئة، وفي شيخوخته لم يهدأ. يحضر اللقاءات الثقافية والاجتماعية البارزة في لبنان، منطلقاً من حرصه على الهوية والنسيج الاجتماعي، دافعاً نحو قوة التنوُّع من خلال عروبة لبنانية صافية.

ويصعب إحصاء دعمه الثقافة والمثقفين، بتمويله طبع مؤلفات وبرامج منتديات، فضلاً عن مساعدات اجتماعية وتربوية إنسانية، أحدثها دعم مالي للنازحين السوريين.

الرجل الغائب عن لقاءات رجال الأعمال الكبار، وهو منهم، كان حاضراً في حراك المنتجين فكراً وثقافة وطنية. واللافت احتفاظه بشغف المعرفة حتى الرمق الأخير. كان، وهو التسعيني، يحضر دروساً في مادة التاريخ في جامعة القديس يوسف، ويسأل عن كتب بعينها تسد فراغ معرفته، ومع هذا الشغف محبة غامرة لشخصية لبنان الحضارية. كان كثير السفر، وقد تعلّم من مشاهدته شعوب العالم مزايا الشعب اللبناني التي لا يقدّر قيمتها كثيرون من قادته السياسيين.