غسان الإمام

 انتهت أميركا في حلب إلى ما رسمته لها سلفًا روسيا. فقد وُضع جون كيري في «برواز» الصورة على هامش سيرغي لافروف. لا في صميم الحل والموضوع. «بروزة» وزير الخارجية الأميركي، على هذه الصورة المزرية، تتناسب مع وضع إدارة أميركية فاشلة، تتسلى بعدِّ أيامها الأخيرة على أصابعها. وعلى حساب سمعتها ومكانتها في العالم، أمام حلفائها قبل أعدائها.

ربما بدأت الآن معركة محافظة إدلب الجارة الغربية لمحافظة حلب. فقد تم تجميع أكوام المدنيين الذين هجَّرهم النظام. وتحشيد المعارضات المسلحة المتزمتة والمعتدلة، تحت قيادة وإشراف «جبهة النصرة» القاعدية. محافظة إدلب جاهزة الآن لتلقي «الخبيط» الجوي الروسي والسوري. والغزو الإيراني، بالميليشيات العراقية. واللبنانية. والأفغانية. وستتكرر المأساة الحلبية الدموية، على مشهد من العالم كله، بحجة الادعاء بتصفية جيوب الإرهاب «الداعشي» و«القاعدي»، على أن يدفع المدنيون في إدلب الثمن الذي دفعوه في حلب.
لماذا تنزل هذه المآسي والمآزق بالسوريين والعرب؟ لأنهم أخفوا عن أنفسهم وعن العالم ما جرى ويجري في سوريا، خلال السنوات الست الأخيرة، من عمر الانتفاضة. فقد قضى النظام على المعارضة الوطنية السلمية. وأطلق سراح الفئات المتزمتة لديه. وساعدها على استيعاب المعارضة السلمية. واحتلال مدنها. وقراها. وريفها.
وهكذا، تم كتم صوت العقل. والحكمة. والمرونة، لدى المعارضة المفيدة. والقضاء على أية إمكانية لها، لفرض حل سياسي. وديمقراطي على النظام. وكسب تأييد العرب جميعًا. والعالم بدوله الكبرى. وهيئاته الدولية، كالأمم المتحدة. وحقوق الإنسان. والصحافة. وفرضت التنظيمات المتزمتة والمعتدلة على المجتمع المدني، في المدن. والقرى. والريف، نظامًا سياسيًا جائرًا لا يقل قسوة عن النظام المشكو منه. وجرى التشديد أيضًا على الحريات الاجتماعية. والشخصية، الأمر الذي أدى إلى دفع ملايين السوريين إلى النزوح والهجرة خارج البلد. فضاقت بهم تركيا ودول عربية مجاورة. ووصلت الهجرة السورية بالذات إلى قلب أوروبا!
هذا ما حدث لملايين المدنيين المغلوبين على أمرهم. أما التنظيمات المسلحة فقد تجمدت داخل «القواقع» المقيمة فيها. ولم تقاتل إلا إذا هوجمت. ولم تتخلَ عن حساسياتها. ومغانمها. وامتيازاتها، لتنشط. وتبادر. وتتوسع. وتجند عشرات ألوف المدنيين في صفوفها. لكونها أصلاً تنظيمات معزولة فكريًا. ورافضة للانفتاح. والتكيف مع العصر. ورؤية ودراسة التطورات الهائلة في المنطقة والعالم.
المؤسف أن المدنيين، من مثقفين. وأطباء. وهيئات إنقاذ. ودفاع مدني، الذين أتيح لهم الخروج من هذه «الغيتوهات» الكئيبة، لم ينقلوا الواقع المؤسف الذي عاشوه إلى العرب والعالم. بل غالبًا ما تستروا عليه، خوفًا منه. وحماية لأهلهم الباقين، من انتقام التنظيمات وشيوخها التكفيريين.
لست ضد تدخل النظام العربي في سوريا. لكن جرى تمويل وتسليح تنظيمات الأمر الواقع. فإذا بالمعتدلة منها تشارك المتزمتين بالتسليح. وتمنع وصول التمويل إلى المدنيين المحاصرين والجائعين. جرى ذلك في حلب. ومضايا. والزبداني. والمعضمية. وداريا... في ريف دمشق الغربي. والجنوبي.
ومع التدخل الجوي الوحشي الروسي، بات المدنيون هدفًا للقتل والإبادة من الجو. والغزو. والحصار الطائفي العلوي. والشيعي، من البر، ومن دون خجل. وحياء العمائم التي تنوء بها الرؤوس، في قُم. وطهران. والنجف. وكربلاء. وجنوب لبنان. والبقاع. وضاحية بيروت الجنوبية، باسم التقى. والتقية.
أما التنظيمات السياسية فلم تكن بأحسن حال ووعي من التنظيمات المسلحة. النظام العربي المتعاطف مع سوريا والمسلمين، من مصلحته، أن يعرف أنها في معظمها جماعات من الهواة المشردين في مقاهي أوروبا. أو الهامشيين الهامسين داخل سوريا. ولم يسبق لهم أن مارسوا سياسة. أو معارضة. أو دخلوا سجنًا. وتغص الأجواء المحيطة بهم، بأقاويل عن تلقيهم رشى. ومنحًا أجنبية. وعربية.
هؤلاء الساسة الهواة لم ينزلوا إلى الميدان. ولم يواجهوا المسلحين المتزمتين، بالتوعية. والنصح، بالرفق بملايين المدنيين. ولم يطلبوا السماح لهم بزيارة ملايين النازحين إلى الدول المجاورة. وتركوا التنظيمات «الداعشية». و«القاعدية». و«الإخوانية»، للتسلل إليهم. وتحريضهم ضد الأنظمة والمجتمعات العربية الشقيقة التي آوتهم. وهناك اليوم أربعة ملايين نازح. ومهاجر في تركيا. وأوروبا، يجري التغرير بهم، لمغادرة هويتهم العربية. والاندماج في مجتمعات. ولغات. وثقافات، غريبة عنهم. وقطع صلتهم بالبلد الذي هو في حاجة إليهم مستقبلاً.
ما جرى في حلب صورة للواقع المأساوي القائم منذ ست سنوات. فقد غزت التنظيمات الريفية الممولة والمسلحة جيدًا المدينة الكبيرة، مدعومة بألوف «المتزمتين» المستورَدين، غير المتعاطفين مع أهل المدينة الذين رفضوا، في صمتهم. وخوفهم، هذه الغزوة «الثورية». بل أُجبروا على قبول الريفيين والغرباء في بيوتهم. وأسواقهم. ومرافقهم. وتم الاستيلاء على رزقهم. وتدمير أمنهم. وسلامة حياتهم اليومية.
جرى خلط كبير بين المتزمتين الغزاة. والمعتدلين الريفيين. فتهيأت الصورة المناسبة لاستغلال بوتين وبشار لها. فتم قصف المدنيين بحجة أنهم يؤون المتزمتين! وقصف المعتدلين لتسترهم على خضوعهم للغزاة المستورَدين. بعد اجتياح المدينة، سقطت كبرياء المعارضات. فباتت تقبل بكل ما رفضت بالأمس القريب. من تسوية تفاوضية مجحفة مع النظام. ومن نزوح إلى الريف. وإدلب. ومن تسليم مناطقهم إلى غرباء جدد يضمهم جيش إيراني حقيقي.
النظام العربي عليه أن يعي ويدرك ما يجري اليوم في العالم من تطورات متناقضة كبيرة. شيئًا فشيئًا، تتهاوى مبادئ الديمقراطية. والليبرالية. وحقوق الإنسان. وقبول المهاجرين. واللاجئين. واستيعاب ملايين العرب والمسلمين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
هناك اليوم استراتيجية بلا آيديولوجيا. حرب حقيقية على الإسلام المتزمت. وحرب غير معلنة على الإسلام المعتدل. والمتسامح. يشنها «الرجل الأبيض» الذي يمثله الفارس فلاديمير بوتين. و«الكاوبوي» دونالد ترامب. تقف آيديولوجيا اليمين واليسار على مفارق الطرق. وتتقدم شعبوية بيضاء رافضة للون الأسود. والأحمر. والأسمر. وتعتبر نفسها حامية لثقافات. وتقاليد. وشعوب معرضة للغزو. ومن حقها أن ترد على الغزو. بغزو مماثل. وتتسلل شعبوية تنزع من الدين روحه الحضارية. وغرضه في إقامة عالم مسالم. آمن.
المأساة السورية برهنت على أن الدول الصغيرة لا تستطيع ضمان أمنها. وسلامتها. واستقلالها، وسط رياء ونفاق الدول الكبرى. ونظام عالمي مقيد ومرهق بقيود الـ«فيتو» الذي يحمي الظالمين من المحاسبة والعقوبة. ولا يؤمن العدالة للمظلومين.
سوريا ستغيب. يستحيل الحل. وسوف يستمر القتال. والشقاء، مع استمرار نظام سبق له أن أباد شعبه. ومعارضات سياسية. بلا هوية. وانتماء. ومعارضات مسلحة لا تؤمن بالسلم. والتسوية. والعصر. والديمقراطية.