سمير عطا الله
دخل الحبيب بورقيبة تاريخ تونس من أبواب كثيرة، لعل أهمها الاستقلال، وأن ما كان أجملها فرض التعليم الإلزامي على التونسيين، معتبرًا أن النضال كان سلاح التحرر، والعلم سيكون أداة بناء دولة الاستقلال. بسبب تلك السياسة، اعتبر بورقيبة رائد التعليم الإلزامي في العالم العربي. غير أن الرائد الحقيقي لم يكن عربيًا، بل كان الألباني محمد علي باشا، الذي أمر بخطف أبناء الفلاحين، وتقييدهم بالحِبال على مقاعد الدراسة حتى لا يفرّوا من صفوفهم.
رأى العسكري الألباني أن هذا هو الحل لتحرير شعبه الجديد من نير الفقر، وتوسيع آفاقه في الأعمال وفي النجاح. واليوم يطرح مفكرو مصر وكتّابها مسألة التعليم والمناهج الدراسية في البلد الذي كان وزير التربية فيه، طه حسين. ولا فكرة لديّ إطلاقًا في النقاش، سوى الفكرة العامة التي طُرحت منذ أيام رِفاعة الطَهْطاوي في القرن التاسع عشر، الذي دعا إلى توسيع المناهج وإضافة العلوم الطبيعية. وكان الطهطاوي ضمن أول بعثة يرسلها محمد علي إلى باريس ليعمل واعظًا مع ثلاثة مشايخ آخرين، مطلوب منهم السهر على التربية الدينية لطلاب البعثة. وفي باريس، نشط الواعظ الأزهري في الاطلاع على أنواع المعارف، والتقى الكثير من العلماء، وقرأ أدباء فرنسا. وبذلَ بعضهم جهدًا من أجل إقناعه باستخدام مصطلح «الإفرنج» أو «الفَرنسوية»، أو «النصارى» بدل مصطلح الكفرة، الذي كان مصرًا عليه. وفيما كان الطهطاوي خلال وجوده في الأزهر يدعو إلى المعارف الحديثة، راح في باريس يدعو إلى التمسك بالتقاليد والتديّن. وهناك أيضًا رفض كل محاولة من أصدقائه الفرنسيين لإقناعه بأن خير مصر سوف يكون في إقامة حكم فرنسي. إلا أنه في المقارنة ما بين الأتراك والفرنسيين، اتخذ جانب الأخيرين.
عاد الطهطاوي إلى القاهرة وفي حلمه أن يلتقي محمد علي. وعندما التقاه، أقنعه بوجوب تعليم اللغات الأجنبية، معيّنًا الباشا ناظرًا لمدرسة الألسُنيّة. وطاف محمد علي أنحاء مصر يبحث في مدارسها الصغيرة عن ذوي الذكاء والمؤهّلات من التلامذة ليضمّهم إلى المدرسة التي أوكِل بها. ومنها تخرّج جيل من المثقفين والمتعلّمين. وتولى طلاب المدرسة ترجمة أكثر من ألفي كتاب، لم يُطبع أكثرها، لأن محمد علي الداعي إلى التعليم بالقوة، صار يخاف أن يهدد الانفتاح على الثقافات حكمه ونظامه. يشار أيضًا إلى أن الطهطاوي انتقى معظم تلامذته من المصريين، في حين أن محمد علي كان يتعمّد اختيار معظم التلاميذ من الأتراك والشراكِسة.
عاش الشيخ رِفاعَة مع تلامذته الليل والنهار. يعلّمهم أحيانًا بعد صلاة العِشاء، وأحيانًا بعد صلاة الفجر، ويُصحّح أعمالهم من الترجمات. وعندما انتهى عصره الذهبي، كان قد ترك خلفه جيلاً من الكبار الذين أثرَوا الثقافة المصرية بنقل روائع الأدب والقانون والشعر وملاحم اليونان.
التعليقات