فـــؤاد مطـــر 

 منذ أن قرر الرئيس سعد رفيق الحريري اختراق ما هو مستغرَب أو مستهجَن وخرج على اللبنانيين الذين لم تعد صدورهم تتحمل ذبول الحالة السياسية اللبنانية باستمرار فراغ رئاسة الجمهورية مِن سيدها، شاهرًا طرْح اسم الوزير السابق سليمان طوني سليمان فرنجية مرشَّحًا للرئاسة، استبشر اللبنانيون بهذا التطور وتفاءلوا بالخير بأمل أن يجدوه.
اللبناني المسيحي الصافي النية الخائف على أن يبهت منصب الرئاسة في حال استمر الفراغ والعناد، استحضر بينه وبين نفسه وهو يتأمل في الذي فعله سعد الحريري قول السيد المسيح عليه السلام: «طوبى للمصلحين بين الناس أولئك هم المقربَّون يوم القيامة».
واللبناني المسلم السُني الذي ضاق صدره من تسويف المحكمة الدولية ومن انعكاسات فراغ الرئاسة الأولى على حيوية الرئاسة الثالثة، ورمي الرئيس تمام سلام بمشكلات البلد صغيرها وكبيرها، فضلاً عن اشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية، استحضر بينه وبين نفسه وهو يتأمل في الخطوة الجريئة وإرفاق التأمل ببعض الاستغراب وكثير الخشية، قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: «اعلم أن النصر مع الصبر والفَرَج مع الكرْب، وأن مع العُسْر يُسرًا».
ولم يكن اللبناني المسلم الشيعي الذي أثقلت روحه الخطوة التي لم يخطر في باله أنها ستحدُث وأنها ستتطور وأنها ستطول وتضيف المزيد من الوقت لفراغ الرئاسة والأزمة الاقتصادية والمعيشية، وتنعكس عليه آلامًا نفسية بعد آلام فقدان فلذات أكباد وأعزاء أرسلوا مكرَهين لا مختارين إلى حرب عبثية في سوريا، وفي الوقت نفسه تصنيف الخطوة الحزبية هذه بأنها واجب ديني.. لم يكن اللبناني المسلم الشيعي الذي نشير إليه أقل أملاً بالله من اللبناني المسلم السُني، مستحضرًا في ذلك بعض أقوال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنها: «الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك. فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر»، و«مِن كفَّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب».
بعد خطوة سعد الحريري المتمثلة بطرح اسم سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية، أمضى اللبنانيون الذين نشير إلى طيب قلوبهم وصفاء نياتهم وخوفهم على أن ينتهي الأمر بالوطن إلى أنه على شفير التبعثر، حدثت الصحوات صحوة تلو صحوة، وباتت المحرَّمات محلَّلات. تصافى الإخوة الأعداء. ولانت بعض الشيء قساوة التحالفات. وعندما طرح سعد الحريري اسم العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية سجل بذلك قدرته كلاعب سياسي يتقن أصول اللعبة بشقيْها التكتيكي والاستراتيجي.
لم يعد كرسي الرئاسة مسكونًا بالفراغ المهين. بات هنالك مَن يجلس على كرسي الرئاسة محفوفًا بالتفاف حوله غير مسبوق. الحليف التليد الذي لا يستطيع أن يتخلى عنه، والحليف الجديد لا يمكنه فك الارتباط به. وكبار الشأن العربي والدولي يؤازرون ويتفهمون ويهنئون؛ أبرزهم من السعودية في شخص الأمير خالد الفيصل، الذي يمثِّل صفتيْن متميزتين؛ صفة أمير مكة، بما يعنيه روحيًا هذا الاسم لمليار ونصف المليار مسلم، وصفة مستشار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز المتعاطف مع الوطن المحسود الدائب الرعاية له المشغول البال عليه.. هذا إلى أن الأمير خالد هو ثالث أبناء الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي طالما أعطى لبنان في الزمن الغابر اهتمامًا مِن على المنابر الدولية، وأخو الطيب الذِكْر الأمير سعود الذي كان عند حُسْن ظن عمه الملك فهد طيَّب الله ثراه في رسْم أفضل مشهد دبلوماسي وسياسي لصيغة العيش السياسي اللبناني بين الذين تقاطروا إلى الطائف على خلاف وعادوا على وفاق مكلَّلين باتفاق لم ولا تغادر يومًا حمايته من السياسيين المتلاعبين «أجندة» أهل الحكم السعودي.
وعلى قاعدة مَن يتفاءل بالخير يجده أمكن تشكيل حكومة واسعة جدًا على حجم لبنان المثقَل بالهموم والديون والتناقضات المضافة والمرهِقة الناشئة عن الاستضافة التي لا مجال لصدِّها لمليون ونصف المليون سوري مستجيرين، يقابلها مشاركة غير مبرَّرة «حزب الله» في الأزمة السورية سيخرج في نهاية الأمر منها معاديًا بمشاعر متفاوتة الغضب خمسة عشر مليون سوري سُني اعتبرهم أهدافًا وليسوا جيرانًا تستوجب أصول الجيرة احترام خياراتهم في الحد الأقصى، وعدم التحرش بهم في حال كان الاحترام متصلاً بتعقيدات خارج الأُخوة العربية.
لكن الحكومة الفضفاضة حالة عابرة وهي بمثابة ترويض وتسديد ديون سياسية أو هي سلفة لدائنين محتملين عندما تجري الانتخابات البرلمانية في ربيع العام 2017. وإلى ذلك، فالحكومة الفضفاضة اختبار للقدرات بمعنى اختصار متاعب الناس التي تراكمت وكادت تدفع بالمواطن إلى اليأس في أعلى درجاته من السياسة والسياسيين.
ثمة ما يوجب تطوير ما أمكن إنجازه لجهة ملء فراغ الرئاسة الأولى والتوافق على حكومة يُعتبر خلو بيانها الوزاري من ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة بمثابة انسجام مع السعي الذي بدأه سعد الحريري وأوصل البلد إلى ما وصل إليه حتى الآن. وحتى إذا كان خلو البيان من تلك الثلاثية أشبه بعدم استعمال أميركا الأوبامية التي قاربت شمسها على الغروب «الفيتو» ضد قرار أجازه مجلس الأمن ويطالب إسرائيل بوقف الاستيطان، واكتفائها بالامتناع عن التصويت (وكلاهما، خلو البيان من الثلاثية وعدم استعمال أميركا «الفيتو»، حدثا في يوم واحد)، إلا أن التمسك بهذه العبارة كان سيبدو موضع استغراب، فهي صيغت وتكرست يوم كانت المقاومة تستهدف إسرائيل، لكن الهدف كما المفهوم انتفيا بعدما باتت هذه المقاومة تقاتل سوريين عربًا ومسلمين في مناطق داخل سوريا واليمن، وتدرِّب عناصر للقيام بعمليات في دول عربية، شأنها في ذلك شأن روسيا بوتين التي جاءت صديقة ثم انتهت ضاغطة على صاحب القرار لجهة تحقيق هدنة، أو استمرار المواجهة، ولجهة حفْظ الأمن في شوارع مدينة حلب بواسطة رجال شرطة روس على نحو حِفْظ الجنود السوريين في زمن «النجدة السورية» للبنان في النصف الثاني من السبعينات وكيف بات حِفْظ الأمن حالة هيمنة بالكامل.
يبقى القول إن ظروفًا موضوعية توجب بلوغ الخير الذي بدأ، منتهاه. من هذه الظروف أن الرئيس سعد الحريري ليس رئيس الحكومة للمرة الأولى، ذلك أنه بات رقمًا أساسيًا في تركيبة الحكم في لبنان مبتكرًا الصيغ المتقنة في ساعة الشدة للأزمة السياسية، وأن الرئيس نبيه بري بات مطالبًا بأن يتقدم رجل الدولة في شخصه على رجل الطائفة، وهو بهذا يهدئ من روع السيد حسن نصر الله الأمين العام «حزب الله»، ويساعده لكي يعود من سوريا ويعمل على ترميم ثلاث سنوات من التدخل فيما لا يعني الطائفة جزئيًا، ولبنان بالكامل. ومثل هذه المساعدة قد تلقى الإصغاء، ذلك أن مثلث البحث عن خروج غير مثخن بالخجل من سوريا «بوتين. إردوغان. روحاني» لم يشمل الرئيس بشَّار الأسد ولا «حزب الله». وهذه في حد ذاتها حيثية لاستعادة الذين زُج بهم كما لاستعادة النأي بالنفس والتبصر في المصائر والعواقب. والله المعين.