&إميل أمين

في 12 شباط (فبراير) الجاري شهدت العاصمة الكوبية هافانا، لقاءً يمكن أن يطلق عليه لقاء السحاب، بين أكبر قمتين روحيتين في العالم، البابا فرنسيس الأول بابا روما، وممثل الكاثوليك حول العالم، والذين يبلغ عددهم نحو بليون و300 مليون، وبطريرك روسيا الأرثوذكسية كيريل، رأس الكنيسة التي ينتمي إليها أكثر من 125 مليوناً من الروس، والتي كانت الحاضنة الحقيقية لروسيا القيصرية، وحفظت لها أصالتها وعراقتها الروحية والأدبية طوال سنوات الحقبة الشيوعية.

يعن لنا أن نتساءل أمام هذا اللقاء المثير: «هل ما فرَّقته المذاهب الدينية من قبل كانت السياسة وأحوال العالم وراء تجميعه من جديد؟

الشاهد أن ما رشح عن لقاءات كوبا حتى الساعة يفيد بأن هموم العالم السياسية، والخوف من الوقوع في براثن الحرب العالمية الثالثة كان الشغل الشاغل والأهم من محاولات التقارب المسكونية، لاسيما أن كلاً من البابا والبطريرك في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبخاصة مع اشتداد ظلمة الأزمة السورية، وتفاقم أحوال مسيحيي الشرق الأوسط، والخوف من صراع جديد بين الشرق والغرب، قد خاضا في غمار الطروحات السياسية، سواء على الصعيد الداخلي في روسيا، أو على الصعيد العالمي كما يفعل البابا فرنسيس بحكم «جامعية» كنيسته ومؤسسته الدينية في «قارات الأرض الست». هل يراهن بوتين علي دور الكنيسة الأرثوذكسية في بلاده في تعميق الصحوة الروسية حول العالم؟ وفق وسائل الإعلام الروسية، فإن بوتين يوافق مبدئياً على تعزيز دور الكنيسة الأرثوذكسية في العالم، وهو الدور الذي يعززه عموماً في روسيا، ولكن غالباً ما تختلف الأولويات والاهتمامات بينه وبين البطريرك كيريل، وبالنسبة إلى بوتين، فإن السياسة وشواغلها هي أكثر أهمية من حل المشاكل بين الكنيستين. هل البطريرك كيريل رجل دين أم رجل سياسة؟ في واقع الأمر يبدو أن التفريق بين الأمرين في الآونة الأخيرة شأن عسير لتداخل الخيوط وتشابكها بين ما هو دنيوي مادي وما هو روحاني معنوي، فحياة الناس في القرن الحادي والعشرين وفي زمن العولمة المتوحشة باتت في حاجة إلى نوعية من حراس الأخلاق، ولا نقول الأوصياء عليها أو موظفي الله كما يطلق عليهم بعضهم. في كانون الثاني (يناير) الماضي وجَّه البطريرك كيريل أول خطاب له أمام مجلس الدوما، فهل توقف الرجل عند مرحلة شرح وتفسير العقيدة المسيحية الأرثوذكسية؟

بالقطع من تابع الخطاب أدرك أن هموم الحياة والسياسة قد باعدت كثيراً بينه وبين دور «المبشر» التقليدي، لأي رجل دين. فمن على منصة «الدوما» وجَّه نداءً للسلام في أوكرانيا، وحث البرلمان الروسي على حماية الأسرة. ومن بين أمور أخرى اقترح كبح عمليات الإجهاض، ودعا إلى إحياء شعور التضامن كما كان في الحقبة السوفياتية لبناء روسيا الحديثة.

في كلمته بدا البطريرك كيريل مذكراً الروس بخاصة والعالم بعامة بالدور الذي لعبته المؤسسة الكنسية الأرثوذكسية هناك، وكيف أنها كانت العمود الفقري للدولة الروسية لأكثر من ألف عام، وعليه فقد حملت عباراته عن القيم والأخلاقيات، منطلقات كثيرة للتفكر في شؤون الخلافات السياسية، لاسيما في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم من جهة، وفي الشرق الأوسط المتناحر حيث المسيحيون العرب يتعرضون لأعمال وحشية من قبل جماعات الإرهاب من جهة أخرى. قبل ذلك، وفي أيلول (سبتمبر) 2013، وفي الوقت الذي كانت الأنباء تفيد بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما يخطط لهجوم عسكري على نظام الأسد، كتب البطريرك كيريل، للرئيس الساكن في البيت الأبيض، يحثه على وقف أعمال الحرب، قائلاً في خطاب عاجل: «تعرف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ثمن المعاناة والدم بعد أن عاش شعبنا حربين مدمرتين كانت نتيجتهما مقتل الملايين، وتدمير حياة الكثيرين، وعليه فإنه لا بد من أخذ كل الفرص الداعية إلى الحل الديبلوماسي». أبعد من ذلك، فإن كيريل نفسه حاول مبكراً، وفي تموز (يوليو) 2009 تحديداً لعب دور «حمامة السلام»، بين موسكو وواشنطن، ففي زيارة أوباما لموسكو، وجه كيريل الحديث للرئيس الأميركي قائلاً: «لنضع المشاعر المعادية لأميركا السائدة في روسيا، والمشاعر المعادية لروسيا السائدة في أميركا جانباً باسم القيم المسيحية المشتركة بين الشعبين الروسي والأميركي». هل البابا فرنسيس أقل حضوراً على صعيد شؤون وشجون السياسة العالمية؟

يدرك القاصي والداني ما لحاضرة الفاتيكان من أهمية على صعيد الحياة الديبلوماسية حول العالم، وليس سراً أنه في بعض الأحايين تعجز الديبلوماسية الأميركية عن تقديم حلول لقضايا بعينها، وهنا تجد في الأبواب الخلفية تارة والأمامية تارة أخرى للديبلوماسية الفاتيكانية مفاتيح للحل، وهناك منظمات بعينها داخل تلك المؤسسة العريضة والعريقة تقوم على خدمة السلام في العالم، وفي مقدمها «سانت أيجيديو»، على سبيل المثال. ومع اعتلاء البابا فرنسيس «السدة البطرسية» وجد العالم نفسه أمام حبر روماني، الإنسان هو قضيته.

هل يتوجب على القارئ أن يتساءل لماذا كان هذا اللقاء في كوبا؟

يبدو أن موقع وموضع لقاء البابا والبطريرك وصدور الإعلام المشترك من هناك، يحمل دلالة رمزية شديدة الأهمية. فكوبا هي ذاتها الدولة التي كادت من خلالها تنطلق شرارة الحرب العالمية الثالثة بين واشنطن وموسكو في ستينات القرن المنصرم، وها هي يصدر منها من جديد التحذير النهائي، كي لا يجد العالم نفسه منساقاً، وربما من خلال ما يجري في سورية إلى صراع عالمي جديد بين الشرق والغرب.

من العجيب والمثير أن تمثل كوبا نقطة التقاء للشرق الأرثوذكسي السلافي، وللغرب الروماني الكاثوليكي، معاً، فهي وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي، ظلت وفية للتوجهات الأيديولوجية اليسارية، ومع ذلك ظلت محافظة للجاليات الروسية فيها على حقها في أداء شعائرها الدينية، وإقامة صلواتها واحتفالاتها المسيحية من دون أن يمنعها أحد من ذلك. وعلى الجانب المقابل نرى ترحيباً كبيراً بالبابا فرنسيس، والذي كان وراء عودة العلاقات بين هافانا وواشنطن في العام الماضي في شكل رسمي بعد قطيعة طالت عقوداً، وهناك أخبار عن زيارة قريبة للرئيس أوباما إلى كوبا، ما يعني أنها قد أصبحت بالفعل نقطة التقاء عالمية بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، يسارع إليها قادة العالم الروحيين في محاولة جادة منهم لإنقاذ السلام العالمي المهدد في الآونة الأخيرة.

&

منذ ألف عام

سياق اللقاء الكبير والأول من نوعه منذ ألف عام بين رأس الكنيستين، ربما يقتضي طرح علامة استفهام أوسع وأعرض من الشكل الخارجي للقاء على أهميته، ومن الإعلان بوصفه حدثاً مغيّراً للماء الراكد في العلاقات بيت الطرفين. العلامة التي نتحدث عنها هنا: هل دور البطريرك كيريل مكمل للمنظومة الإحيائية التي تشهدها روسيا، بعد أن نفضت عنها الغبار الذي لحق بثوبها غداة فترة حكم الأوليغارشية والتي انتهت بوصول فلاديمير بوتين إلي سدة الحكم؟

يذهب ألكسي ريشين؛ مدير مركز الدين ومعلومات المجتمع والتحليل إلى أن «روسيا في حاجة إلى تعبئة المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية وبخاصة الدينية منها، من أجل التعامل مع الأزمات الخارجية والاقتصادية من موقف قوة».

في ضوء هذا التصريح يفهم المرء أبعاد اللقاء مع بابا الفاتيكان بل أكثر من ذلك إنه يلقي الضوء على سلسلة الزيارات التي يقوم بها البطريرك كيريل في القارة اللاتينية، فبعد كوبا توجه الرجل إلى باراغوي، ثم البرازيل، ومعروف أن هذه دول كاثوليكية بامتياز، كما أن نسبة المسيحيين الروس الأرثوذكس فيها ضئيلة للغاية، ولهذا فإن الزيارة تكتسب بعداً ربما سياسياً ودعائياً لروسيا القيصرية الأرثوذكسية الجديدة، أكثر من كونها زيارة رعوية أبوية تقليدية دينية.

وفي الأحوال كافة، فإن واشنطن تراقب بعينين مفتوحتين مثل هذه اللقاءات، والتي ربما لا تجد هوى في نفسها، فالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، عادة ما تقف سداً ومانعاً أمام حالة الانفلات الإمبراطوي الأميركي المعتادة، وآخر فصولها الصراع الفكري والتلاسن الذي دار بين المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب، وبين البابا فرنسيس، نتيحة رفض البابا فكرة ترامب إنشاء سياج على الحدود مع المكسيك، فقد رأى البابا أن مثل هذا الأمر يمثل «جداراً للعار»، وأن العالم في حاجة إلى جسور لا جدران، وكان قد سبق لترامب أن انتقد البابا فرنسيس في مناسبات أخرى بخاصة أفكاره المتعلقة بالرأسمالية أو تقاربه من الإسلام.

بأكثر من ذلك تنزعج واشنطن من أن تكون كوبا نقطة انطلاق روسية إلى القارة اللاتينية، حتى ولو كانت بعباءة رجل دين مثل كيريل، فكل مساحة يكتسبها النفوذ الروسي مجدداً في تلك البقعة من الأرض، تعتبرها واشنطن حسماً من رصيدها في منطقة تمثل بالنسبة إليها «رصيداً استراتيجياً وخلفية جغرافية تابعة تاريخياً بالضرورة للنفوذ الأميركي». مثير جداً شأن الحياة السياسية حول العالم، فقد كانت حاضرة الفاتيكان عدواً تاريخياً لموسكو، والعبارة المشهورة على لسان ستالين لاتزال قائمة... «كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟»، وها هو ستالين وإمبراطوريته الشيوعية يذهبان وراء الريح، في حين تبقى المؤسسة الكاثوليكية صامدة، وقد ردَّ عليه وقتها سعيد الذكر البابا بيوس الثاني عشر بالقول: «قولوا لإبننا جوزيف أنه سيلاقي فرقنا العسكرية في السماء». اليوم نرى تغيراً واضحاً لاسيما بعد الزيارة التاريخية من قبل بوتين للبابا فرنسيس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، وها هي موسكو تضع فترة العداء للفاتيكان خلف ظهرها، فهي ليست موسكو الشيوعية، التي ساهم بابا فقير قادم من دولة أذلت فيها الماركسية كرامة الإنسان، في هز أركانها وإسقاط أعمدتها وركائزها. إنها موسكو مختلفة تحاول أن تؤكد دورها الفاعل في سياق الحضارة المسيحية، حتى وإن بقيت هناك أهداف سياسية تتخفى وراء غلالة رقيقة من القداسة. من موسكو إلى الفاتيكان، سردية متسعة للتواصل والتفاهم، في حين تبقى واشنطن تخسر كثيراً من نفوذها على الأرض وللأسباب كلام آخر.

&