إياد أبو شقرا& &
يعيش العراق ولبنان هذه الأيام وهمين كبيرين جدًا هما «السيادة» و«الوحدة الوطنية». وبمرور الأيام تتأكد قدرة الساسة في البلدين ليس على خداع شوارعهم الفئوية فحسب، بل خداع الذات أيضًا.
عام 1920 كان عامًا مفصليًا في تاريخ البلدين ورسم «النظام العالمي الجديد» يومذاك خريطتيهما الجامعتين مكوّنات عدة: منها ما ارتضى بحدود الكيانين، ومنها ما قبل بها على مضض، ومنها ما اعتبر أن مجرد وجود حدود تقسم الولايات والمتصرّفيات ذات الغالبية العربية أو الوجهة العربية في الدولة العثمانية يشكل طعنة لحلم الوحدة العربية.
ما يجب تذكّره هنا، دائمًا، أن حدود كيانات الشرق الأدنى ما رسمها وتبناها مواطنوها الذين هم أصحاب العلاقة المباشرون، بل القوى الغربية الإمبريالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وهذه القوى كانت قد تفاهمت – كما هو معروف – على تقاسم التركة العثمانية بموجب سلسلة من «الصفقات» والاتفاقيات.
مسألة الأقليات الفئوية (العرقية واللغوية والدينية والطائفية) كانت دائمًا عنصرًا حسّاسًا عند رسم حدود مناطق الانتدابين الكبيرين البريطاني والفرنسي. وفي حين فصلت الحدود المفتعلة والمصطنعة – بل، والمعدّلة في حال غرب العراق وشرق سوريا – جماعات متجانسة فئويًا، فإنها ضمّت معًا جماعات بالكاد توجد بينها قواسم مشتركة.
وأمام هذا الواقع الجيو – سياسي الجديد كان ثمة صراع محتدم النخب بين الهويتين الدينية والقومية مع أفول «الخلافة» العثمانية وظهور «القوميات» المتأثرة بالتجارب الأوروبية. وكذلك بدايات غزو الريف والبادية للمدن.. مع ما حملته من تفاعل وتنافر وتبلور هويّات مصلحية ومفاهيم فكرية وآيديولوجية.
العراق ولبنان - ومعهما بالطبع سوريا - عاشا كل هذه التحوّلات. ولكن بينما استقر في العراق حكم مَلَكي على قاعدة قوامها النخب الريفية والعشائرية والمدينية في بغداد والموصل والبصرة، وسندها «الضباط الشريفيون» ومن معهم من مناصري فيصل بن الحسين (فيصل الأول)، قام في «لبنان الكبير» حكم جمهوري توافقي برئاسة شخصية مسيحية.
في العراق لم يختر الأكراد والتركمان حدود دولتهم، وما كان الشيعة جزءًا فاعلاً في بواكير مرحلة بناء الدولة، غير أن الملك فيصل نجح مدعومًا برجال عقلاء ومستشارين أكفاء – بعضهم من غير العراقيين – في بلورة هوية «عراقية». وبحلول منتصف الثلاثينات من القرن العشرين كانت ملامح الدولة العراقية قائمة، وكانت الثروة النفطية عاملاً مساعدا على البناء والاستقرار على الرغم من التجاذبات المحلية والمتأثرة بالخارج، ومنها النشاط الألماني النازي في بغداد خلال السنوات التالية الذي أسهم في بناء تيار سياسي مناهض للبريطانيين على مستويي الأحزاب والجيش. وفي لبنان، أيضًا، تأقلمت نخب المدن والريف، وظهرت مصالح مشتركة وتنظيمات سياسية تقليدية وآيديولوجية مخترقة للطوائف، من دون القضاء نهائيًا على الجدل بين «الكيانيين» اللبنانيين و«الوحدويين» السوريين والعروبيين.
في الحالتين العراقية واللبنانية كان الضمير السياسي عند المسلمين السنة العرب يعتمل بإحباط شديد من «واقع التقسيم»، وكانوا يرون أن «الكيانات» التي أفرزها النفوذان البريطاني والفرنسي جاءت على حساب حلم «الوطن العربي الكبير» من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي. ولعله كان من الممكن التخلي، ربما، عن هذا الحلم الرومانسي لولا جرح فلسطين عام 1948.
الحقيقة أنه في العراق، ما كان الشيعة العرب أقل «عروبة» من السنة العرب، ولا كان المسيحيون واليهود والإيزيديون وغيرهم أقل اعتزازًا بانتمائهم «العراقي» من المسلمين. وحتى الأكراد والتركمان تآخوا وتعايشوا مع باقي المكوّنات وكان منهم النواب والوزراء وكبار الضباط، ناهيك عن الأدباء والشعراء، كما كانت الأسماء العربية رائجة بينهم من دون افتعال أو تزلّف. وفي لبنان، أيضًا، على الرغم من أن غالبية «الكيانيين» كانت مسيحية وغالبية «الوحدويين» مسلمة، فإن هاتين الغالبيتين كانتا صغيرتين، وبرزت من المسيحيين قيادات «وحدوية» رائدة لامعة، وكان من بين المسلمين زعامات فاق تشبّثها بـ«الكيان» تشبّث أقرانها من المسيحيين.
نكبة فلسطين التي صدمت العرب، وأفقدت النخب الحاكمة الكثير من رصيدها تركت «المسرح» بانتظار «بطل»، فجاء «البطل المنقذ» من الثكنات. وما لبث «العسكر» أن دخل ساحتي «الحرب الباردة» و«السلطة من أجل السلطة».
لقد جاء «العسكر» لملء الفراغ و«تحرير فلسطين»... لكنه سرعان ما دخل في تجاذبات النزاع الدولي بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، وأخفق في التعايش مع الأحزاب السياسة بمختلف مشاربها.
وبعكس نكبة 1948. جاءت نكسة 1967 لتكشف أمام الشارع أن الحل ليس بالضرورة عبر الجيوش. ثم وقّع «كامب ديفيد» فانقسم العرب وسقط الخيار «العروبي» عند كثيرين.. ازداد عددهم لاحقًا مع احتلال صدام حسين للكويت. وانهار الاتحاد السوفياتي ومعه سقط بديل «اليسار» في المنطقة العربية ومعه كل شعارات «حرب التحرير الشعبية». والمقاومة الفلسطينية أيضًا فشلت بالنجاة من أفخاخ «سياسات المحاور» العربية – العربية، وفقدت بدورها الكثير من رصيدها.
أربعة عقود من الأخطاء المتراكمة هنا والجمود التوريثي هناك فجّرت عملية تغيير سرعان ما حُمّلت اسم «الربيع العربي». وما لبثت هذه العملية أن كشفت التفاوت الفظيع في حضور «الدولة العميقة» داخل كيانات عالمنا العربي. ولئن استطاعت تونس ومصر شق طريقهما قُدُمًا بالحد الأدنى من الخسائر، فإن مآسي سوريا واليمن وليبيا برهنت عن هشاشة مفهومي الدولة والمواطنة فيها.
العراق ولبنان، اللذان لم يمرّا بتجربة «الربيع العربي»، أيضا انكشفت هشاشتهما الداخلية وانعدام المواطنية فيهما بفعل «الزلزال» السوري المتفاقم تحت رعاية مخطّط الهيمنة التوسعية الإيرانية.. المخطط الذي أجّج منذ 1979 لهيب الفتنة السنّية – الشيعية في المنطقة.
إن أزمة الحكم المتطاولة في كل من العراق ولبنان اليوم لأوضح تعبير عن سراب السيادة وخدعة الوحدة الوطنية.
وما كان ينقص هذا الواقع لكي يتحول إلى مأساة إلا رهان روسيا على العودة إلى أحلام الإمبراطورية، واعتماد الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما سياسة شرق أوسطية انقلابية لا تقيم وزنًا لمصائر الناس، ولا تسأل عن التوازنات، ولا تكترث بالتحالفات القديمة.
&
&
&
التعليقات