&&توفيق السيف& &
الذي جرى ببساطة هو أن أسعار البترول بدأت تهبط بشكل حاد، من 37 دولارًا للبرميل في 1981 إلى 28 دولارًا في 1984 قبل أن تهوي إلى 12 دولارًا في 1986. كانت المملكة قد انتهت للتو من ثلاث خطط للتنمية، غيرت تمامًا بنية البلد الاقتصادية، فتضاعفت أعداد طلاب المدارس والجامعات، واكتشف ملايين السعوديين متعة السفر إلى البلدان الأخرى، سائحين أو دارسين. كما تعرف بعضهم - للمرة الأولى ربما - على مواطنين من بلاد لم يسمعوا باسمها سابقًا، جاءوا عاملين في أجهزة الدولة والقطاع الخاص الذي اتسع بشكل لا سابق له.
بدأ الحراك الاقتصادي الجديد في 1971. وبعد عقد ونصف العقد، أصبحنا قادرين على ملاحظة ما يعرف اليوم بالطبقة الوسطى الحديثة، أي مئات الآلاف من المواطنين الذين تحسنت مداخيلهم، فباتوا قادرين على إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس، والتمتع بعطلة نهاية الأسبوع، والسفر لبضعة أيام أو بضعة أسابيع خلال الصيف، وتخصيص ساعة أو ساعتين لقراءة صحيفة ومشاهدة التلفزيون كل يوم.
وضعت برامج التنمية الاقتصادية وفق رؤية اقترحها معهد ستانفورد للأبحاث، تركز على محورية الحراك الاقتصادي في التنمية الشاملة. وهي رؤية مرجعها نظرية التنمية الكلاسيكية، السائدة يومئذ في الأكاديمية الأميركية.
لعل المخططين تغاضوا عن المخرجات الثقافية والاجتماعية للنمو الاقتصادي. أو لعلهم فضلوا تأجيل بحثها حتى ظهور النتائج الأولية للحراك الاقتصادي. وهذا توجه كررته معظم المجتمعات النامية. لكن الواضح أن ذلك التأجيل قد تحول إلى إغفال. في 1984 وجدت المملكة نفسها غير قادرة على مواصلة الإنفاق بالمعدلات التي عرفتها خلال الخمسة عشر عامًا الماضية.
ففي عام 1986 قررت وزارة المالية تمديد العمل بميزانية العام السابق وعدم الإعلان عن ميزانية جديدة.
كل تحول اقتصادي يؤدي بطبيعته إلى تحول ثقافي واجتماعي. من المستحيل أن تطلق تحولاً اقتصاديًا واسع النطاق وتحصر نتائجه وانعكاساته في إطار الاقتصاد. في ذلك العام انتبهنا إلى حقيقة أن البلاد تحتاج إلى نظام مؤسسي يستوعب التحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي جرت خلال عقد ونصف العقد، وأبرز تجلياتها تبلور الطبقة الوسطى الحديثة. لو كان لدينا فائض مال، فلربما أمكن تسكين تلك التحولات أو توجيهها نحو مزيد من الإثراء والرفاهية. لكن إيرادات البلاد تكفي فقط لتسيير الحاجات الأشد إلحاحًا.
في النصف الثاني من الثمانينات تعرف المجتمع على ما يعرف اليوم بتحول الهوية الفردية. وهو باكورة التحول الاجتماعي المغفل. وتجسد يومها في بروز نزعات قبلية ودينية تنطوي على ميول تخارجية عن المسار الاجتماعي العام. هذه النزعات ليست شيئًا يمكن الحيلولة دون ظهوره. غاية ما نستطيع فعله هو عقلنتها، أي تطوير نظام قانوني (مؤسسي) يتكفل باستيعابها وتوجيهها.
يميل العالم المعاصر إلى تبني فلسفة مختلفة، تتلخص في تمكين الأفراد من السيطرة على أقدارهم، وإدارة حياتهم على النحو الذي يوصلهم إلى السعادة، بدل انشغال الدولة فيما ليس من مهماتها.
كي نحقق هذه النقلة، يجب أن تتخلى الدولة عن دور الأم (المربية)، إلى دور المخطط (المشرف)، فتكتفي بوضع القانون وتوسيع الإطارات المؤسسية التي تسمح للجمهور بأن يمسك بأقداره ويتحكم في مجرى حياته ويدبر متطلباتها. عندئذ سيكون كل فرد حرًا في خياراته ومسؤولاً منفردًا عن نتائجها.
&
&
&
التعليقات