محمد كركوتي

أحسب أن أحدا من قادة العالم الغربي لا يريد أن يحل مكان ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا هذه الأيام، وربما في الأيام اللاحقة "أي المرحلة المقبلة". هذا الأخير، ورط نفسه باستفتاء خروج أو بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، كان بإمكانه تفاديه بحراك سياسي اقتصادي أشد فاعلية، على الساحة الوطنية وداخل حزبه الحاكم. الآن لا ينفع الندم في هذا المجال. والمصيبة التي يواجهها كاميرون "بل وحزبه كله" أنه يقف بقوة إلى جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي، بينما تتقارب قوة فريقي الخروج والبقاء تقريبا، وفق مختلف استطلاعات الرأي. صحيح أن التجارب أظهرت أنه لا يمكن الاستناد إلى نتائج استطلاعات الرأي هذه، لكن الصحيح أيضا، أن ما تنشره بصورة شبه يومية تقريبا، بات يؤثر بصورة أو بأخرى في شريحة البريطانيين الذين لا يزالون في مرحلة عدم الحسم.

&في غضون ثلاثة أسابيع تقريبا من الآن، سيصنع تاريخ على الساحة الأوروبية سواء قرر البريطانيون البقاء أو الخروج. وإذا خرجت بريطانيا، قد يبدو أخلاقيا أن يخرج ديفيد كاميرون نفسه من الحكم، وذلك لصعوبة منحه الثقة الكاملة، بعد أن فشل في مسعاه. مع ضرورة الإشارة، إلى أن الخروج يعني حدوث تغييرات أقرب إلى الجذرية داخل الحزب الحاكم، لأنه أساسا منقسم بين البقاء والخروج، وبين الفوائد والخسارة، وبين الديمقراطية البريطانية "المسلوبة" والديكتاتورية الأوروبية. بين القناعة بأن التنوع الثقافي والعرقي أفضل، وبين النظر إلى هذا التنوع على أنه من الأعداء على المدى البعيد. بين ترك القرارات الاقتصادية المحورية للمفوضية الأوروبية في بروكسل، وإعادتها مجددا إلى قاعدة الحكم في لندن. خلافات حزبية حادة بالفعل، كما يبدو من هذه المقارنات.

&لم يظهر أي تأثير لدعوة الرئيس الأمريكي باراك أوباما البريطانيين للبقاء في الاتحاد الأوروبي. ولا يبدو، أن قادة ورؤساء الهيئات الاقتصادية الدولية تمكنوا من تغيير مزاج المؤيد لخروج بريطانيا، من خلال تصريحاتهم التي تجمع على المخاطر الجمة من جراء الخروج. وبالتأكيد لم تنفع كثيرا حملات التخويف التي يقوم بها معسكر البقاء، من خسارة الوظائف وانهيار قيمة الجنيه الاسترليني، وهجرة المصارف الكبرى من لندن، وتراجع أسعار العقارات، وغلاء الأسعار، وبطء الحركة التجارية بين الجزيرة البريطانية وبقية بلدان أوروبا. والأهم، إجبار المملكة المتحدة على إعادة التفاوض مع منظمة التجارة العالمية، ومواجهة المنافسة الاقتصادية بمفردها.. إلى آخر العناصر التخويفية الكثيرة. والأمر يبدو مشابها على جانب معسكر الخروج، الذين فشلوا في إخفاء نياتهم غير الإنسانية في حملاتهم الترويجية، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين واللاجئين. دعك من مجموعة السبع الكبرى التي أيدت البقاء، والولايات المتحدة كذلك، ومن رؤساء الشركات والمؤسسات العاملة بريطانيا، ومن حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومن السياسيين الأوروبيين المتعصبين لأوروبا أكثر من تعصبهم لبلادهم. دعك من كل هذا، ما يواجهه كاميرون هذه الأيام لن يواجه شيئا بخطورته في المستقبل. إنه في الواقع يختص بمصير دولة كبرى حقا، لا بلد هامشي لا يؤثر في الحراك الدولي. ولا يمكن لرئيس الوزراء البريطاني أن ينجح، إذا لم يحقق نجاحا أولا بفضح منهجي للبرنامج العنصري الخاص بالمعسكر الداعم لخروج بريطانيا من الاتحاد. يمكنه أن يجد ثغرات هائلة في هذا المجال. والأهم من هذا كله، أن يقنع الجاليات والأقليات في بلده أن يشاركوا في الاستفتاء وعدم هدر أصواتهم، على اعتبار أنهم مؤيدون تقليديون لبقاء بريطانيا ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي.

&الساعون للخروج يروجون "من ضمن ما يروجون" على أن بريطانيا "فقدت" ديمقراطيتها بتسليمها صنع بعض القرارات إلى المفوضية الأوروبية، إلى درجة أن أعلن قائد هذا المعسكر بوريس جونسون رئيس بلدية لندن السابق، "إن الاتحاد الأوروبي يسير على خطى هتلر"! في إشارة إلى وجود سلطة موحدة في أوروبا. ليس كافيا تصريحات أو تعبيرات من الجانب الآخر مثل "خروج بريطانيا هو بمنزلة تدمير الذات" وما شابه ذلك. مع اقتراب موعد استفتاء البقاء أو الخروج التاريخي، لا يزال أمام كاميرون ومعسكره المؤيد للبقاء، أن يتحرك لتفعيل حراك الأقليات الانتخابي، والتركيز في الحملات المضادة على الجانب العنصري لمعسكر الخروج. مع التأكيد على أن التهديدات الأوروبية المباشرة للبريطانيين قبل الخروج، بأنهم لن يحصلوا على امتيازات أوروبية إذا خرجوا، ستساعد معسكر البقاء أكثر.&

لقد كان الأوروبيون واضحين تماما، عندما أعلنوا مبكرا، ألا تفاوض مرة أخرى مع بريطانيا في حال قررت الخروج من تحت راية الاتحاد الأوروبي. عليهم الآن أن يحددوا "هم وليس المؤيدون البريطانيون" الخسائر التي ستصيب بريطانيا من جراء الخروج. كل حراك بات مفيدا الآن بالنسبة لتيار البقاء، ليس فقط على الجانب العام الرابط بين بريطانيا كدولة والاتحاد الأوروبي ككتلة، بل على صعيد إبراز الخسائر المباشرة للفرد البريطاني من جراء الخروج. إنها ليس معركة بريطانية - فرنسية، أو بريطانية - ألمانية أو إيطالية. إنها معركة بين بريطانيا وأوروبا كلها.