&سليم نصار
قبل أسبوع من موعد الاستفتاء البريطاني في 23 حزيران (يونيو) اتصل أحدهم بمستأجري منزل رئيس الحكومة في محلة «ناتنغ هيل غايت»، ليطلب منهم الإستعجال في المغادرة. وقال الموظف في تبرير الطلب السريع، إن ديفيد كامرون وأفراد عائلته سينتقلون من «10 - داوننغ ستريت» الى منزلهم في أقرب فرصة ممكنة.
ويُستدَل من توقيت هذه الواقعة أن رئيس الوزراء كان على علم مسبَق باحتمال فوز تيار المطالبين بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واعتمد في توقعاته على التقارير الرسمية التي طلبها من الاستخبارات الداخلية (ام أي 5) ومن مكاتب الإحصاء.
ويزعم معاونوه أنه احتفظ بالسرّ لوحده، ولم يبلغ من الوزراء سوى وزير الخزانة جورج أوزبورن، الذي أطل على الصحافيين بعد ثلاثة أيام من صدور النتائج النهائية. وقد أدهشتهم صراحته، وإعلان استعداده مواجهة مختلف الآثار السلبية التي ستحدثها هذه الصدمة السياسية والاقتصادية. وكان بهذا التصور يشير بطريقة غير مباشرة الى علمه بأن حصيلة الاستفتاء لن تكون لمصلحة حكومة حزب المحافظين.
والثابت أن الحصيلة لم تكن لمصلحة حزب العمال المعارِض أيضاً، بدليل أن رئيس الحزب جيريمي كوربين كان أول المتأثرين بهذا التحوّل. خصوصاً بعد انضمامه الى رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كامرون في الدعوة الى بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي. ولما فاز المعارضون بنسبة 51.9 في المئة، قدَّم رئيس الوزراء استقالته بطريقة درامية مؤثرة، اعترف فيها بأن صوت الغالبية الشعبية يعلو على كل صوت.
عقب استقالة كامرون، توقع أعضاء البرلمان في حزب العمال أن يحذو جيريمي كوربين حذوه. ولما تردَّد في اتخاذ هذه الخطوة، فوجئ بصديقه وأقرب المحازبين الى نهجه، وزير خارجية حكومة الظل هيلاري بين، يطالبه بالتنحي. ووصفه بأنه مستقيم ودمث الأخلاق، «ولكنه غير جدير بحمل راية القيادة».
وخشي كوربين من سريان عدوى الانتقاد الى صفوف الحزب، لذلك قرر فصله، الأمر الذي أثار استياء 12 وزير ظل ودفعهم الى الاستقالة احتجاجاً. كما استقال أيضاً 47 من النواب، وذلك بغرض الضغط على جيريمي وإرغامه على الاستقالة. ولكنه رفض الإذعان لمطالب المتمردين الذين يعتبرهم من أتباع توني بلير، رئيس الوزراء السابق.
على هامش الاجتماعات التي تجري في برلين وبروكسيل من أجل إعادة النظر في مستقبل بريطانيا، يستعد المرشحون لخلافة كامرون لاختيار زعيم جديد للحزب. وكان في طليعة المبادرين لأخذ المبادرة بوريس جونسون، الذي عقد سلسلة إجتماعات في منزله في «اوكسفوردشاير» بهدف إقناع الحاضرين بأهمية اختياره خلفاً لكاميرون. علماً أنه لعب دور المحرِّض والمشجِّع على تحدي الحزب الذي انفصل عنه، الأمر الذي انتهى بفوز تياره بنسبة أخرجت البلاد من الاتحاد الاوروبي.
وفي طليعة المنافسين على خلافة كاميرون مايكل غوف، وزير العدل السابق، الذي انفصل عن كامرون لينضم الى الفريق المؤيد للإنفصال. وقد لمـَّح رئيس الوزراء الى «خيانة» الأصدقاء ممَنْ وضعهم في الواجهة، ومنحهم أفضل الفرص. وكان بهذا التلميح يشير الى الدور المريب الذي يلعبه وزير الخزانة جورج اوزبورن، الذي أيَّد ترشيح بوريس جونسون في حال اختياره وزيراً للخارجية!
ويبدو أن حظ وزيرة الداخلية تيريزا ماي قد تقدَّم هذا الأسبوع بدعمٍ من كاميرون، الذي يرى في أدائها السياسي نسخة مخففة عن مارغريت ثاتشر. وطرح أصحاب القرار في حزب المحافظين عدة أسماء يعتبرونها قادرة على مقارعة غوف أكثر من تيريزا ماي. وحجتهم أن وزيرة الداخلية لم تكن صريحة في إعلان موقفها من الاستفتاء. ولذلك وقفت وراء تصريحات مضللة بهدف التبرؤ من التزاماتها السياسية. ولقد تكشفت حقيقة طموحاتها هذا الأسبوع، عندما أعلنت عن رغبتها في خلافة كامرون، وإنما بطريقة ملتبسة لا تغضب الأحزاب الأخرى. وكان من نتيجة هذه المراوغة أن عرض الحزب عدة أسماء بينها: جيريمي هانت واندريا ليدسوم ونيكي مورغان.
خوفاً من تعزيز تيار الانفصال داخل دول تابعة للاتحاد الاوروبي، قررت المستشارة الألمانية انغيلا مركل تليين موقفها حيال كامرون بحيث منحته فرصة زمنية إضافية لترتيب الوضع الداخلي المقلق. وفي اجتماع بروكسيل، استخدمت معه عبارة «مراسم الطلاق ستكون طويلة»، الأمر الذي أخافه لأن الطلاق في المحاكم الأوروبية يجرِّد الزوج من نصف ثروته على أقل تقدير. لذلك وعدها بتعجيل عملية الخروج من الاتحاد.
ويُستَدَل من تحليل الصحف الألمانية أن المستشارة مركل كانت تراهن على عامل الزمن لكسب نتائج توقيع أكثر من ثلاثة ملايين بريطاني على عريضة تدعو لإجراء تصويت آخر. وربما اعتمد هؤلاء على سابقة تسمح للبرلمان بمناقشة أي عريضة تحمل أكثر من مئة ألف توقيع. ولكن ديفيد كامرون رفض مراجعة عملية الإستفتاء بناء على هذه العريضة، خوفاً من حدوث شروخ سياسية إضافية داخل المملكة غير المتحدة.
ومن الملاحظات اللافتة في استفتاء 23 حزيران (يونيو) أن ستين في المئة من سكان العاصمة لندن صوّتوا على بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الاوروبي. واستغل عمدة لندن العمالي صادق خان هذه النتيجة ليؤكد أن العاصمة التي يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة (تصبح في النهار 13 مليون نسمة بسبب الموظفين والعمال) ستبقى جزءاً من السوق الموحدة. وطلب خان من رئيس الوزراء كامرون أن يأخذ في الاعتبار تصويت لندن خلال المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي. ويتخوّف خان من الانعاكاسات السلبية التي سيتركها الإستفتاء على مجمل الأوضاع العقارية والاستثمارية في لندن، خصوصاً في حال قررت المصارف الكبرى نقل القسم الأكبر من موظفيها الى فرانكفورت أو باريس.
ومع أن الاقتصاد البريطاني ضخم جداً بالنسبة للدول الأخرى في الاتحاد، إلا أن المؤسسات المالية في «السيتي» تقترح على مارك كارني، حاكم البنك المركزي، تقليد النموذج النرويجي في التعامل مع 27 دولة. أي استمرار الصلة بالسوق المشتركة.
الشركات المالية في الولايات المتحدة طلبت من الحكومة البريطانية مزيداً من الإيضاحات المتعلقة بالتغيير الذي سيحصل. كما طلبت شركات العقارات الابتعاد عن لندن بسبب تراجع الجنيه الاسترليني واستمرار تأرجحه مقابل الدولار.
ويقول توماس دونهيو، رئيس غرفة التجارة الأميركية، إن بلاده تستثمر أكثر من 500 بليون دولار في بريطانيا. والغرض من كل ذلك الوصول الى الاتحاد الأوروبي عبر هذه الدولة الحليفة الذي استنجد رئيس حكومتها بالرئيس باراك اوباما من أجل الترويج لبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الاوروبي. والثابت أن وقع خطابه لم يلقَ آذاناً صاغية، بدليل أن رئيسة وزراء اسكتلندا، نيكولا ستيرجن وعدت بتنظيم استفتاء جديد على استقلال بلادها. وهذا ما ستفعله من بعدها إرلندا الشمالية. وهما تتوقعان أن تكون حصيلة الاستفتاء إنتصاراً كاسحاً للاستقلال. والثابت أن كلمة «استقلال» كانت الكلمة السحرية التي استخدمها رئيس حزب الاستقلال نايجل فراج لإثارة حماسة الناخبين. ولما انتهت عملية الاستفتاء، سأله كامرون بغضب: ولكن عن أي قوى مستعمرة تريد الاستقلال للبريطانيين؟
وأطلق فراج ضحكة بلهاء قبل أن يجيب: من استعمار بروكسيل!
التعليقات