علي سعد الموسى

في تاريخ تركيا الحديث، تركيا ما بعد الجمهورية وولادتها، يبرز على واقع الأحداث ستة انقلابات عسكرية مكتملة وأربعة أخرى فاشلة. لماذا؟ لأن الجيش مع العلمانية هي آخر وصايا كمال أتاتورك التي لا يمكن لها أن يُقترب منها أو تمس، ومن لسانه أيضاً أكتب: الجيش هو حارس العلمانية، والعلمانية هي عقيدة الجيش. من هو الذي يستطيع في تركيا أن يقترب من هز هذه الجملة وتفكيك هذه المعادلة؟ الجيش التركي، مع قلة من جيوش هذا العالم يتصرف كدائرة مقفلة مغلقة، وهو جسد اقتصادي عملاق وكيان "جيوسياسي" لا يعمل مكشوفاً أمام السلطة الديمقراطية المدنية، وأفضل وصف يمكن أن ينطبق عليه ليس إلا "حكومة الظل" أو الشبح: تركيا المدنية مع جيشها لا تشبه سوى عمارة من دورين ولكل منهما مدخله الخاص وحياته المستقلة، لكن الجيش يعيش في الدور السفلي ويهدد بنزع ما شاء من أعمدة البنيان تحت الساكن الفوقي.

هنا بعض الدلالات من تصريح إردوغان في مطار أتاتورك مساء ما قبل البارحة: سئل الرئيس التركي عن رئيس هيئة الأركان فأجاب بحذر وارتباك: (لا أعرف عنه الكثير بل تكاد المعلومات المتوفرة لدي عنه أن تقول إنه لا يوجد لدي معلومة..). إردوغان بالطبع يعرف وزير الدفاع جيداً، بل هو من اختاره، لكن تكوين الجيش التركي يجعل من رئيس الأركان منصباً أكثر نفوذاً في كتلة عسكرية مقفلة مغلقة وبالغة الاستقلال عن المكون السياسي المدني. تحدث الرئيس التركي أيضاً عن "الكيان الموازي" داخل هيكل الجيش ربما بلغة مختارة منتقاة كي يبعد قوام الجيش التركي عن محاولة الانقلاب الفاشلة. وهذا التوصيف لا يشرح أبداً جوهر المشكلة لأن الجيش التركي في الحقيقة هو "الكيان الموازي" برمته، الذي يقف كتفاً بكتف مع الحاكم المدني. لا يمكننا الحديث عن "قلة" بينما كانت دبابات الانقلاب الفاشل تجوب المدن الجوهرية، من إسطنبول في الغرب حتى بورصة وأنقرة في القلب، إلى غازي عنتاب في الشرق وأنطاليا في الجنوب. انقلاب شاركت فيه وحدات من الجو والبر وحتى البوارج البحرية. إردوغان نفسه أدى يمين القسم رئيساً للدولة أمام البرلمان وجملة القسم الرسمية بها: (أن أحمي العلمانية وأحافظ على الجيش).

والزبدة أن إردوغان سيصعب عليه المساس بالجيش والعلمانية، لا لأنهما من المقدسات الموروثة لدى الشعب من وصايا زعيمهم التاريخي أتاتورك فحسب، بل لأن المساس باستقلال هذا الكيان الموازي "الجيش" سيهز مصالح ما يقرب من 20 مليون مواطن تركي وآلاف الشركات وزعماء المال والأعمال المرتبطين بالانتماء أو المصالح مع هذا الكيان الموازي، الذي يشكل كتلة اقتصادية واستثمارية تشكل وحدها ما يقرب من ربع الناتج القومي التركي.
والخلاصة أن الحياة المدنية لا يمكن لها أن تحبو مطمئنة بجوار مؤسسة عسكرية مستقلة مقفلة، مثلما لا يمكن للديمقراطية الحقيقية أن تزدهر بين محاذير المقدسات الموروثة ووصايا زعيم سابق مثلما هي الحالة التركية. تركيا هي فصل الجيش والدين عن الدولة.

&