&عبد الملك بن أحمد آل الشيخ
&


واجهت الدولة السعودية الثالثة في مرحلة التأسيس وما أعقبها من مراحل، تحديات كبرى استطاع الكيان أن يتجاوزها، بتمسكه بدينه الصحيح، وثباته على أصوله وحسن تطبيقه لما اندرج تحتها من فروع، وكان ذلك نتيجة النظرة الثاقبة والإدارة السياسية المحنكة للمؤسس المغفور له، بإذن الله، الملك عبد العزيز، الذي وضع الأسس السليمة والمتينة التي قامت عليها هذه الدولة.

فقد أسس الملك عبد العزيز دولته، المملكة العربية السعودية، على مبدأين أساسيين، هما:
أولاً: عقيدة الدولة: هي العقيدة الإسلامية، وهي الإيمان الجازم بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

فقد جعل الملك عبد العزيز إقامة شرع الله، وحماية تلك العقيدة هما الأساس الذي بنيت عليه هذه الدولة، وقد تجلى ذلك في كثير من خطبه ومن ذلك قوله «إني أعتمد في جميع أعمالي على الله وحده لا شريك له، أعتمد عليه في السر والعلانية والظاهر والباطن، وأن الله مسهل طريقنا لاعتمادنا عليه، وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها».

ثانيًا: مبدأ السيادة: لقد أدرك الملك عبد العزيز قبل أكثر من ثمانين عامًا أن مفهوم السيادة، (والذي لم يدركه في وقتنا الحاضر الكثير من القادة والمحسوبين على السياسة) هو السمة المميزة للدولة، وهي أساس مفهوم قانوني، يشير إلى القوة العليا النهائية، وأن لكل دولة هيئة أو جهازًا ذا سيادة، لديه القوة العليا التي تمنحها حق ترجمة إدارة الدولة إلى صيغ شرعية نافذة المفعول.

ولغياب الهيئات والأجهزة الرسمية في بداية مراحل التأسيس لهذه الدولة كانت شخصية الملك عبد العزيز تمثل تلك الهيئة، وكانت إرادته تفرض على جميع الأفراد، وكان، رحمه الله، صاحب السيادة أو الحكمة، الذي يتدخل لإنهاء الصراعات داخل الدولة وفرض الأمن فيها.
يقول أرمسترونغ في كتابه «سيد الجزيرة»: «حيثما جلس عبد العزيز فهو القاضي الأول والقاضي الأخير لمنازعات قومه أفرادًا وجماعات. سار عبد العزيز منذ حكم الرياض وخطته أن يكون لكل شخص الحق في أن يتقدم إليه بملتمسه وشكواه، والويل كل الويل لمن يحجب عنه سائلاً أو مظلومًا، وهو يلتزم في أحكامه الذي يصدرها كتاب الله وسنة رسوله». خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز) 1985.

وبما أن السيادة هي عدم الخضوع لأي سلطة أخرى على الصعيدين المحلي والدولي؛ إذ لا توجد سلطة فوق سلطة الدولة، لذلك فإن للسيادة وجهين، هما:

السيادة الداخلية: وهي امتلاك السلطة المطلقة، على جميع الأفراد والجماعات التي تتألف منها، وهي سلطة شرعية لها سنّ الأنظمة وفرضها بشتى الوسائل، وقد استطاع الملك عبد العزيز، أن يبسط نفوذه ويحافظ على وحدة هذه البلاد؛ تحقيقًا لتلك السيادة، بقمع كافة الفتن، التي ظهرت في عصره للمساس بهذه الوحدة، وسنّ الأنظمة وبناء المؤسسات المحققة لتلك السيادة؛ فقد أصدر الملك عبد العزيز 36 نظامًا ما بين عامي 1926 و1945، ومن أهمها أنظمة القضاء، الذي يمثل ركنًا أساسيًا من دعائم السيادة في بناء الدول، حيث كان القضاء، المستمد من الشريعة الإسلامية، والتقاضي إليها، وتنفيذ أحكامها، وأنه لا سلطان على القضاء والقضاة، لغير أحكام الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعية، التي لا تتعارض معها، وتطوير آليات تنفيذه، من أولى اهتماماته، رحمه الله.

السيادة الخارجية: وهي استقلال الدولة فعليًا وقانونيًا عن سيطرة أي دولة أخرى واعتراف الدول بها، وحقها في التمثيل الدبلوماسي، وعضوية المنظمات الدولية، وحريتها في اتخاذ القرارات من دون قيد أو تردد، إلا الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والعرف والاتفاقيات الدولية الثنائية والإقليمية.
وقد حظي الملك باعتراف دولي باستقلال بلاده فعليًا وقانونيًا، عن سيطرة أي دولة، وتم تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدولة الناشئة وبقية دول العالم، فبلغ عدد الدول الممثلة في بلاده حتى عام 1948، 26 دولة وبلغ عدد ممثليات بلاده في الخارج حتى عام 1951، 16 ممثلية.
وانضمت المملكة إلى عدد من المنظمات الدولية، ووقعت عددًا من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، فبلغ عدد هذه الاتفاقيات 26 اتفاقية و64 معاهدة حتى عام 1950.

فها هو الملك عبد العزيز في خطبة له في جدة يقول «إن للدول الأجنبية المحترمة، علينا حقوقًا ولنا عليها حقوقًا لهم، علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وأن المسلم العربي يشين بدينه وشرفه، أن يخفر عهدًا أو ينقض وعدًا، وأن الصدق أهم ما نحافظ عليه، إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب ومصالح رعاياهم المشروعة محافظتنا على أنفسنا ورعايانا بشرط أن لا تكون تلك المصالح ماسة استقلال البلاد الديني أو الدنيوي، تلك حقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها وسنحافظ عليها ما حيينا، إن شاء الله»، خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز) 1985.

بهذه الرؤية الواثقة التي تحافظ على سيادة البلاد الدينية والسياسية تمكّن الملك عبد العزيز من جعل مسار العلاقة بين بلاده والعالم أجمع مسار تعاون إيجابي وليس مسار مجابهة، وهذا ما يؤكد ويعزز أن الملك عبد العزيز لم يكن فارسًا وقائدًا شجاعًا فقط، بل كان دبلوماسيًا بارعًا وصاحب مشروع حضاري أساسه دين صالح لكل زمان ومكان.

يقول الجنرال الأميركي باتريك هيرلي، المندوب الخاص للرئيس روزفلت عندما قابل الملك عبد العزيز في الرياض «الملك عبد العزيز أحكم وأقوى من عرفت من قادة البلاد العربية، وإنه لرجل بعيد النظر، نافذ العزيمة مستعد لقيادة شعبه إلى التمشي مع ركب التقدم العالمي»، خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز) 1985.

ونحن اليوم في المملكة العربية السعودية وبعد أكثر من ثمانين عامًا من تأسيس الملك عبد العزيز وترسيخه لدعائم الدولة السعودية الحديثة، نجد أن دولتنا الدولة السعودية تجدد نفسها على يد الملك سلمان بن عبد العزيز، مستلهمًا من الملك عبد العزيز قوة العقيدة وبعد النظر، والدبلوماسية المقرونة بالعزم والحزم؛ ليقود البلاد في مسيرتها التنموية والحضارية التجديدية لمواكبة متطلبات العصر والبحث عن البديل الأنسب، وعن الحل الأفضل أيًا كان مصدره؛ مصداقًا لحديث النبي، صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها».

فالتطوير والإصلاح في هذه الدولة عملية مستمرة، فها هي الاتفاقيات المتبادلة مع الدول الأخرى تبرم والأنظمة تصدر، والرؤى تتحقق تباعًا منذ عهد الملك عبد العزيز إلى ما نعيشه اليوم في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، من رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية رائدة، إلا دليل واضح على أننا أمام حاكم وقائد سياسي مخضرم قادر على استشراف المستقبل لتحقيق نهضة شاملة وإصلاحات كبرى على المستويات كافة؛ ترسيخًا لمبدأي العقيدة والسيادة. تلكم هي الرؤية السعودية: من الملك عبد العزيز إلى الملك سلمان.&

&