&السيد يسين

اذا كنا في ما سبق من مقالات تعقبنا معركة الهوية الأصولية الإسلامية مع هوية الحداثة الغربية والتي تمثلت أساساً في رفض الهوية التي قامت -تحت تأثير التيارات العلمانية- بالفصل الكامل بين الدين والسياسة، فإن التطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي استفحلت شرورها حتى الآن تمثلت في تحول الهوية الأصولية إلى هوية إرهابية. وقد تبنت الهوية الإرهابية جماعات إسلامية متطرفة شتى في مختلف البلاد العربية والإسلامية. ويكفي بهذا الصدد أن نشير إلى أن تنظيم «القاعدة» الذي كان يتزعمه «بن لادن»، والذي انحصرت رؤيته إلى العالم بأنه ينقسم أساساً إلى «فسطاطين» «فسطاط الإيمان» متمثلاً في المسلمين و«فسطاط الكفر» متمثلاً في غير المسلمين. ولو قنع تنظيم «القاعدة» بهذه القسمة الجائرة لمواطني العالم لهان الأمر، إلا أن الخطورة العظمى تمثلت في أنه يقع على عاتق المسلمين محاربة الكفار حتى لو كان ذلك في عقر دارهم.

وكانت الترجمة العملية لهذه الاستراتيجية الإرهابية هي الهجوم الصاعق الذي قامت به مجموعة إسلامية متطرفة ينتمي أعضاؤها إلى بلاد عربية وإسلامية شتى على معاقل القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية زعيمة «الاستكبار العالمي» بتعبير تنظيم «القاعدة» وذلك في أحداث سبتمبر الشهيرة، والتي تمثلت في خطف مجموعة من الطائرات المدنية والدخول بها في أبراج مركز التجارة العالمي وغيره من الأهداف المهمة مثل مبنى «البنتاجون» -الرمز الأعلى للعسكرية الأميركية- بهدف تفجيرها، مما أدى إلى انهيار الأبراج ووقوع آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء.

ولم تقف موجة الهوية الإرهابية التي تبنتها تنظيمات إرهابية إسلامية عند حدود تنظيم «القاعدة» بل إنها انتشرت في بعض البلاد العربية وفي مقدمتها مصر، حيث قامت جماعة «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» بحوادث إرهابية متعددة لعل أبرزها جريمة قتل السياح في مدينة الأقصر. وقد ترتب على هذا الحادث المروع التحرك السريع لأجهزة الأمن في جمهورية مصر العربية، والتي قامت بالقبض على قيادات وأعضاء الجماعتين الإرهابيتين، وحكمت على بعضهم بالإعدام وعلى الآخرين بالسجن المؤبد.

وما يلفت النظر حقاً في التجربة الإرهابية المصرية أن قادة هاتين الجماعتين الذين حُكم عليهم بالسجن المؤبد قاموا -بتشجيع من أجهزة الأمن- بالقيام بمراجعات متعددة لمسلّمات الفكر الإرهابي، وأصدروا أكثر من خمسة وعشرين كتيباً أشرفت قيادة هذه الجماعات على تحريرها. وقد قمت بدراسة منهجية لهذه الكتيبات ونشرتها في كتابي «شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي» بعنوان «آلية التأويل الخاطئ والقياس المنحرف». وقد حاولت في هذه الدراسة أن أضع يدي على الآليات التي استطاعت هذه الجماعات الإرهابية الاعتماد عليها في التأويل الخاطئ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية من جانب، واستخدام القياس بصورة خاطئة من جانب آخر.

وقد تبين لي بعد البحث أن كتب «المراجعات» التي قام بها قادة الجماعات الإرهابية المصريين والتي كانت حصيلة مناقشات متعددة مع «أعضائها» في السجون كانت في الواقع مجرد خطوة «تكتيكية» سمحت لهم بأن يُفرج عنهم ويصبحوا من ثم مواطنين عاديين. غير أن الأخطر من ذلك كله هو أن بعض هذه الكتيبات احتوت على نظرية تكفيرية كاملة لغير المسلمين.

ويبدو ذلك أوضح ما يكون في كتاب «للدكتور فضل» وهو اسم حركي لأحد قادة الجماعة الإسلامية عنوانه «العمدة في إعداد العدة» وقد صاغ فيه هذا «المنظر» الإرهابي نظرية تكفيرية متكاملة.

ومبنى هذه النظرية أنه بعد البعثة المحمدية التي كانت موجهة إلى الإنس والجن معاً من لم يدخل الإسلام يجوز قتاله في الداخل أو في الخارج! هكذا بكل بساطة قرر هذا المنظّر الإرهابي شرعية قتل غير المسلمين ولو في بلادهم الأصلية. وقد أدى انتشار هذه النظرية التكفيرية الخطيرة إلى وضع المسلمين في مواجهة تاريخية مع غير المسلمين. ولعل هذه النظرية التكفيرية التي تبناها مؤخراً تنظيم «داعش» الذي أعلن الخلافة الإسلامية في الشام والعراق بقيادة الإرهابي «أبو بكر البغدادي» خير تعبير عن خطورة تبني هذه النظرية التكفيرية.

ذلك أن هذا التنظيم -ولأول مرة في تاريخ الإرهاب- باشر قطع رؤوس الرهائن على شاشات التليفزيون، ولم يكتف بذلك، ولكنه أحرقهم أحياء أو أغرقهم.

وهكذا نجحت هذه التنظيمات الإرهابية في تشويه الدين الإسلامي، لأنها باسم الإسلام قامت بجرائم وحشية ضد الرهائن مما أعاد إلى الأذهان بربرية القرون الوسطى.

وقد بلغت خطورة تنظيم «داعش» أنها استطاعت باستخدام وسائل الثورة المعلوماتية وأبرزها شبكة الإنترنت أن تبث رسائلها التكفيرية إلى كل أنحاء العالم وأن تدعو المسلمين وغيرهم من الأجانب الذين يؤمنون بأفكارها إلى الانضمام إلى صفوفها.