&هالة مصطفى

هل يتذكر أحد الآن نظرية «صدام الحضارات» التى ظهرت فى التسعينيات من القرن الماضى وأثارت جدلا واسعا فى أوساط النخبة ومنظرى العلاقات الدولية أم انتهينا منها بعدما اعتقدنا أننا هزمناها على الورق وفى المحافل السياسية والاعلامية والأكاديمية؟

وللتذكرة, فقد بدأت هذه النظرية بمقال لعالم السياسة الأمريكى المعروف صموئيل هنتجتون بمجلة الـ «فورين أفيرز» الشهيرة عام 1993 قبل أن تخرج فى كتاب ضخم تحت نفس العنوان, واعتُبرت وقتها نقدا مباشرا لنظرية «نهاية التاريخ» التى قدمها مفكر أمريكى آخر من أصل يابانى هو فرانسيس فوكوياما قبلها بعام، بشّر فيها بالانتصار النهائى للديمقراطية الليبرالية (سياسيا واقتصاديا وثقافيا) كنموذج وحيد سيسود العالم بعد انقضاء حقبة الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط الأنظمة الشمولية.

أما ما نفاه وجادل فيه هنتجتون فلم يكن حول حقيقة انتصار وتفرد هذا النموذج وإنما فى إمكانية تعميمه وانتفاء الصراعات الدولية التى رأى - على العكس - أنها ستشتد ضراوة وستتحول من الصراع الأيديولوجى التقليدى بين الرأسمالية والشيوعية إلى صراعات حول «الهوية» بين الحضارات المختلفة, الغربية من ناحية وماعداها من حضارات أو ثقافات، من ناحية أخرى وأن أخطرها ما سيكون بينها وبين العالم الاسلامى لأن المكون الدينى حاضر هنا بقوة كمعيار للقياس. باختصار ستكون الخطوط الفاصلة للحرب القادمة هى تلك التى يحددها هذا النمط من الصراعات وهو ما سيقود إلى صدام حتمي.

لن يحتاج القارئ بالطبع إلى جهد لمعرفة سبب استدعاء هذه النظرية اليوم، فالعمليات الارهابية التى اجتاحت معظم المدن الأوروبية من باريس ونيس وروان بمنطقة فلورانسا الفرنسية, وبروكسل وميونخ ولندن إلى أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية، والتى وقف وراءها متطرفون إسلاميون أيا كانت انتماءاتهم وتصنيفاتهم, أى سواء كانوا أعضاء مباشرين فى تنظيم داعش أو تأثروا بأفكاره عبر وسائل التواصل الاجتماعى أو كانوا من الخلايا النائمة أو وُصفوا بالذئاب المنفردة, قد أعادت (أى هذه العمليات) النظرية إلى صدارة المشهد. صحيح أن كثيراً من التحليلات سعت لايجاد تفسيرات اجتماعية واقتصادية لهذه الظاهرة مثل معاناة المهاجرين المسلمين فى أوروبا، خاصة من ذوى الأصول العربية من الفقر والتهميش والعزلة وعدم القدرة على الاندماج فى نمط الحياة الغربية إلا أن كلها تبدوغير مجدية كمثيلاتها التى حاولت فى الماضى إرجاع التطرف والعنف فى أوطان هؤلاء الأصلية إلى غياب الديمقراطية أوالحرمان السياسى والاجتماعى وغيرها من تفسيرات مشابهة. إن كل هذه الأسباب لا تخلق تلقائيا فكرا متطرفا عنيفا ضد كل من خالفه ولا يمكن أن تبرر له.

ببساطة هناك مشروع عابر للحدود والقوميات يستند إلى تفسيرات فقهية دينية ويُحركه خيال استعادة الخلافة الاسلامية وباسمه يكون «التكفير» و«الجهاد» وارتكاب كل الجرائم ضد الانسانية. وتكفى الإشارة هنا إلى بعض الأمثلة الدالة على نظرة الغرب الحالية ليس فقط للإرهابيين، وإنما للعالم الاسلامى عموما. فعلى هذه الخلفية كان الصعود السياسى لليمين الأوروبى ــ الذى يوصف بالمتطرف ــ واكتسابه أرضية جديدة حيث أصبحت مسألة المهاجرين أو المتجنسين المسلمين بالجنسيات الأوروبية محورا لخطابه الذى يجد له قاعدة شعبية أوسع من أى وقت مضى, وفى نفس السياق تأتى المطالبة بمراجعة القوانين الخاصة بشروط منح الجنسية ووضع الأقليات والمهاجرين وتأشيرة الدخول لدول أوروبا وإغلاق الحدود وإعادة النظر فى بناء المساجد والمراكز الإسلامية لتحتل مكانة أساسية فى النقاش العام الذى سيُفضى آجلا أوعاجلا لتغيير كبير فى المواقف, كذلك تتزايد الانتقادات للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لقبولها واستضافتها أكبر عدد من اللاجئين من الشرق الأوسط تحديدا السوريين وأغلبهم مسلمون.يُضاف إلى ذلك إعلان بريطانيا عن أن أحد أسبابها الرئيسية للخروج من الاتحاد الأوروبى هو خشيتها من انتشار الارهاب «الاسلامى» وامتداده من الدول الأوروبية الأخرى إلى أراضيها، أيضا الانتقادات الحادة التى وجهها الرئيس الأمريكى أوباما للدول الاسلامية خاصة الخليجية على ما وصفه بتصدير التطرف والارهاب وكانت سببا فى أول وأخطر أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة والسعودية, وأخيرًا تصريحات المرشح الجمهورى للرئاسة دونالد ترامب حول سعيه لمنع المسلمين من دخول الأراضى الأمريكية حال فوزه فى الانتخابات وكلها مؤشرات يصعب تجاهلها أو إغفال رمزيتها. بعبارة أخرى إن أفعال هذه الجماعات المتطرفة لا تُرد فقط إليها بل تنسحب على مجتمعاتها ودولها التى أخفقت فى مواجهة أفكارها وتغيير السياق الثقافى العام الذى ينتجها بعد تعثر كل محاولات التنوير والإصلاح.

وفى المقابل, فإن الرهان على النموذج الوحيد لدولة إسلامية «حديثة» سعت دوما للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وهى تركيا قد سقط بدوره, وها هو مستشار النمسا يدعو صراحة إلى وقف مفاوضاتها مع الاتحاد بعد الاجراءات الأمنية العنيفة التى اتخذتها حكومة أردوغان عقب محاولة الانقلاب الأخير, ورغم ذلك فهذا ليس سوى جانب من القصة, فكل متابع لهذا الملف يعلم جيدا أن تلك الانتقادات ليست جديدة ولا ترتبط بحادث بعينه وأن أوروبا لم تقبل يوما أن تصبح تركيا جزءا منها، بحكم الفجوة الثقافية بينهما ودرجة الالتزام بالحريات المدنية والفردية والعلمانية التى بدأت فى التآكل بعد وصول «العدالة والتنمية» إلى الحكم, أما قبل ذلك فكان السبب هو غياب الديمقراطية، وفى كل الأحوال كان هناك دائما شىء ناقص يفصلها عن الثقافة الغربية وقيمها الثابتة.

فى كلمة واحدة, إن الاطار الجامع لكل مانشهده الآن هو بداية التطبيق العملى لـ «صدام الحضارات», فهل ستصمد لغة المصالح المتبادلة وحدها بين العالمين لوقفه؟ أم أنها فقط ستؤجل بعض خطاه؟