سعود البلوي

تدخل الثقافة في كل نواحي الحياة وشتى النظم الاجتماعية، إلا أن صلتها بوسائل الإعلام والاتصال أكثر وضوحا من النظم الأخرى؛ وذلك على اعتبار أن الثقافة هي مجموعة القيم التي تؤثر في الفرد منذ ولادته حتى موته فتربط سلوكه بالمحيط الذي يشكِّل طباعه وشخصيته، حيث ينمي الاشتغال بالثقافة الحس النقدي والذوق السليم والقدرة على التقييم، من خلال اكتساب المعرفة المعمقة بمجالات مختلفة تقوم غالبا على مساءلة البديهيات.

أما الإعلام بصفته نوعا مهما من الأنشطة الاتصالية فهو يستهدف تزويد الجمهور بالحقائق والأخبار والمعلومات عن مختلف القضايا والموضوعات والمشكلات ومجريات الأمور بطريقة موضوعية تسهم في تنوير الرأي العام وتكوين رأي عام صائب لديه، وخاصة فيما يتعلق بالوقائع والأحداث والموضوعات والمشكلات والأخبار والآراء العامة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو غير ذلك.

وقد يستقل الإعلام عن الثقافة كتنظيم إداري أحيانا ويرتبط بها أحيانا من الناحية الإدارية، غير أن الواقع اليوم قد تغير في ظل عولمة وسائل الإعلام التي دفعت بقوة نحو العولمة الثقافية، حيث برزت في عالم اليوم سمتان ثقافيان، هما "التعددية" و"التشابه"، بمعنى التشابه في الدوائر الثقافية الخاصة لكل مجتمع أو جماعة، والتعددية في السمات العامة المشتركة المتعلقة بالقيم الإنسانية العليا كالحقوق والقوانين والحريات، وهذا ربما يجعل هذه القيم المشتركة معظم الثقافات في العالم شبيهة -إلى حد كبير- بالثقافة الغربية (ثقافة شعوب أوروبا الغربية وأميركا الشمالية) التي نلحظ هيمنتها على وسائل الإعلام من خلال صناعة محتواها الخاص، وذلك نتيجة للتفوق التقني والحضاري في هذا المجال.

وهنا تبرز أهمية تفاعل الثقافة إيجابيا مع التأثيرات من حولها -بشكل يشبه الانحناء للعاصفة- كي لا تسهم محاولات "التحصين" المبالغ بها في نتيجة سلبية تجعل الثقافة منعزلة عن الثقافة الإنسانية برمتها في ظل النظام العالمي الجديد، وبالتالي لن تكون الثقافة قادرة على التفاعل والمشاركة في الثقافة الإنسانية، ونظرا لأهمية دور وسائل الإعلام في "التثاقف" الذي ينتج عن اتصال ثقافتين أو أكثر، حيث يؤدي الاحتكاك المتواصل إلى اقتباس الأفراد من ثقافة ما بعض السمات الثقافية أو الأنماط الاجتماعية من الثقافات الأخرى، ومن الأمثلة على "التثاقف" ما حدث للثقافة الرومانية بعد انتصار الرومان على الإغريق حيث تبنوا خلال القرون اللاحقة الكثير من مظاهر الثقافة الإغريقية -رغم هزيمتها عسكريا- في مجالات متعددة كالفنون والآداب والعقائد.

وسائل الإعلام بتقنياتها الهائلة دفعت بقوة في اتجاه التثاقف وتكريسه، فالشركات الضخمة لوسائل الإعلام لا تهدف إلى تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية فحسب، بل يصاحب ذلك انتشار للثقافة، ولا سيما في ظل صعوبة فرض الرقابة والتحكم والانتقاء الإعلامي في ظل الضخ الهائل والمستمر للمحتوى الإعلامي.

وبما أن عولمة الثقافة والإعلام قد أصبحت واقعا لكل دول العالم، فإن المجتمعات العالمية تنخرط في هذا الواقع بنمطين، أحدهما المشاركة الإيجابية (التفاعل) والآخر هو المشاركة السلبية (التلقي) دون التمكن من التأثير؛ وللتقنيات الاتصالية دور كبير في هذا التغير الثقافي الذي له أثر على بنية المجتمعات الإنسانية كافة، حيث تميزت تقنيات الاتصال ووسائل الإعلام بالتفاعلية بين المستخدمين وإمكانية مشاركتهم واختيارهم للبيئة الثقافية التي يرغبون التواجد فيها تقنيا، الأمر الذي أتاح لكل فرد في العالم اختيار طريقة "التعرُّض" التي يريدها، قافزا بذلك على البيئة والثقافة والمجتمع والزمن أيضا، في ظل سعي الرسالة الإعلامية ووصولها إلى الفرد دون جهد منه.

وأبرز التقدم التقني هذا ظاهرة ميل المستخدمين إلى أن يكونوا جزءا من التكوينات والجماعات التي يشعرون بأنها تناسبهم أو تمثلهم ثقافيا أو أيديولوجيا، وخاصة أن البشر غالبا ما يميلون إلى الأفراد الذين يشبهونهم ثقافيا وفكريا واجتماعيا؛ ولذلك ظهرت بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي سمات التشابه بين المجموعات أكثر من سمات الاختلاف في ظل التصرف بحرية أكثر.

وعلى ضوء ذلك فإن محتوى وسائل الإعلام يوحي بحالة المجتمع وواقعه الثقافي؛ وهنا تبرز ضرورة دمج فئات المجتمع في نموذج ثقافي أكثر قبولا لوجود الاختلاف مع الآخر بالقدر نفسه لقبول وجود الاختلاف معه، ولإبراز وجود هذا النموذج الثقافي المتصالح مع "الذات" و"الآخر" يجب تحقيق شكلين من الدعم، يتمثل أولا بالدعم المعنوي المتمثل بإتاحة الفرصة والتواجد الثقافي والإعلامي والمزيد من الحماية القانونية ووقف حملات التأليب ضد الثقافة والمثقفين.

ويتمثل الشق الثاني من الدعم في الدعم المادي المتمثل بدعم إنتاج الثقافة والإبداع والفنون من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وإتاحة الفرصة أمام المبدعين لإثراء ثقافتهم وإبرازهم جهودهم من جهة، ومن جهة أخرى إبراز دورهم في إثراء الثقافات الأخرى بتجاربهم المختلفة، وذلك انطلاقا من ضرورة المسؤولية التنويرية الوطنية والإنسانية، وهنا تبدو الحاجة للجهود لتنوير المجتمع هي الأرض الخصبة لصنع المستقبل المشرق الذي يفترض أن تسهم فيه الأجيال ببناء الثقافة البشرية لا هدمها.

&