&أحمد عبدالمعطى حجازى

بعد أن حدثتكم عن الإسلام فى أوروبا أحدثكم اليوم عن أوروبا فى الإسلام.

والواقع أنهما وجهان لحقيقة واحدة هى ما لابد أن ينشأ بين الثقافات الإنسانية من تواصل وحوار تتأثر خلاله كل ثقافة بالأخرى وتؤثر فيها وتأخذ منها وتعطيها. وبهذا تغتنى وتتطور وتتعدد وجوهها فى الوقت الذى تتشابك فيه جذورها وتتحد منابعها وتصبح حضارة واحدة مشتركة كما حدث بالفعل فى هذه العصور الحديثة التى لم تعد فيها أمة من الأمم أيا كان وضعها قادرة على أن تعيش بمعزل عن غيرها أو تستغنى بما تملكه عما يملكه سواها. وإنما أصبح الكل فى أشد الحاجة للكل. ومن هذه المنطلقات وعلى أساس هذه المبادىء وهذه الحقائق أتحدث عن أوروبا فى الإسلام.

والحقيقة أن أوروبا دخلت الإسلام كما دخلها الإسلام منذ عصوره الأولى. وأظن أنى وضحت هذه الحقيقة فيما سبق أن قدمته عن علاقتنا نحن المسلمين بأوروبا. لكنى تحدثت فيما سبق عن الحوار الذى دار بين الطرفين خلال العصور التى مضت ولم يخل من عنف شديد حتى فى ساحاته الجامعة ومنها إسبانيا التى ظلت فيها الحرب متصلة كرا وفرا منذ دخلها العرب المسلمون فى أوائل القرن الثامن الميلادى حتى سقطت غرناطة آخر معاقلهم فيها فى نهايات القرن الخامس عشر. فإذا كان هذا العنف لم يوقف الحوار بين المسلمين والأوروبيين ولم يمنع من تبادل الأفكار والخبرات فقد ظل هذا الحوار يدور بين طرفين متباعدين لم يقترب أحدهما من الآخر كما حدث فى القرنين الأخيرين اللذين نستطيع أن نتحدث فيهما عن أوروبا التى تفتح الآن صدرها للإسلام وعن الإسلام الذى أصبح أوروبياً أو هو فى طريقه لأن يكون كذلك.

ونحن المسلمين نتصور أو يتصور أكثرنا أن الإسلام يستطيع أن يدخل أوروبا وأن يستوطنها ويظل محافظا على صورته التى حملها المهاجرون المسلمون معهم إليها بكل ما فى هذه الصورة من تفاصيل لا تمثل جوهر الإسلام وإنما هى عادات وتقاليد موروثة يستطيع المسلمون أن يتحرروا منها أو يجب عليهم أن يتحروا منها ليكشفوا من جانب عن جوهر الإسلام وعن قدرته على أن يكون لكل عصر ولكل مجتمع، ويؤكدوا من جانب آخر استعدادهم للانفتاح على حضارة العصر والاندماج فى حياة الأوروبيين والتزامهم بقيمهم الثقافية ونظمهم السياسية.

لكن المسلمين فى هذه الأيام أو أكثرهم يهتمون بالمظهر لا بالجوهر ويخوضون المعارك العنيفة دفاعاً عن الزى بدلا من أن يخوضوها دفاعاً عن مستقبل لهم فى أوروبا لا يمكن أن يضمنوه لأنفسهم أو لأبنائهم أو للإسلام إذا ظلوا يعتبرون أنفسهم أغرابا يدافعون عن وجودهم بالعزلة والمقاطعة ويتعاملون مع الأوربيين كما لو أنهم غير موجودين وكأن أوروبا أرض مهجورة دخلوها فلم يجدوا فيها مايستحق أن يتعاملوا معه أو يحسبوا حسابه.

هذا الأسلوب الذى يتعامل به المهاجرون المسلمون فى أوروبا يكشف عن تناقض مؤسف يمزقهم ويحرمهم من أن يروا طريقهم ويبنوا مستقبلهم. لأنهم فى الوقت الذى يشعرون فيه بالحاجة الملحة لأوروبا يرفضون الاتصال بالأوروبيين والاندماج فيهم، إذ يتصورون أن كونهم مسلمين يجعلهم فوق الآخرين ويعطيهم الحق فى إنكار وجودهم. وهو تصور باطل فرضناه باسم الإسلام على تاريخنا الذى أنكرنا كل ما فيه واعتبرناه كله جاهلية فلم نفهم الإسلام ولم نفهم التاريخ لأننا لم نميز بين البلاد التى فتحها العرب والبلاد التى قدموا منها.

البلاد التى جاء منها العرب بواد لم تعرف المجتمعات المستقرة إلا فى واحات قليلة متناثرة ولم تظهر فيها الثقافات والحضارات والنظم والدول التى ظهرت فى مصر وبلاد الشام والعراق وإيران الى الهند، وفى شمال افريقيا إلى المغرب. فإذا كان الإسلام يجب ما قبله فى الجزيرة العربية فهو لا يجب ما قبله فى الأقطار الأخرى التى دخلها واستقر فيها وأخذ منها وأعطى.

ولاشك فى أن الإسلام أعطى الكثير. أعطى عقيدته التى إعتنقها الكثيرون وتأثر بها الذين ظلوا محافظين على عقائدهم الأولى. لأن الإسلام لم يكن فى كثير من البلاد التى دخلها دينا فحسب، وإنما كان دينا ولغة وثقافة. لكن الإسلام فى المقابل أخذ من البلاد التى دخلها الكثير. وما علينا إلا أن نقارن بين الإسلام فى نصوصه الأولى والاسلام كما نراه الآن فى مذاهبه ومواطنه المختلفة.

الإسلام فى موطنه الأول يختلف عن الإسلام فى البلاد التى استوطنها. مذاهب أهل السنة تختلف عن مذاهب الشيعة بفرقهم المختلفة وعن الخوارج بفرقهم المختلفة. الخوارج الذين نشأوا فى الصحراء وخرجوا من صلب القبائل البدوية التى لم تعرف الاستقرار ولم تخضع لسلطة تمردوا على السلطة ورأى بعضهم أن الأمة ليست بحاجة لحاكم أو رئيس .

أما الشيعة الذين نشأوا فى العراق واشتد عودهم فى إيران فقد تأثرت عقيدتهم الإسلامية بما ورثوه من عقائدهم ونظمهم السابقة وخاصة فى كلامهم عن الإمام المعصوم. وكما يختلف الشيعة عن الخوارج وعن أهل السنة يختلف المعتزلة عن الأشاعرة، والمتصوفة عن الفلاسفة. وفى مصر يختلف السلفيون الذين يقلدون البدو عن الفلاحين الذين صالحوا بين عقيدتهم الإسلامية وما ورثوه عن آبائهم المسيحيين وأجدادهم الفراعنة، فأضافوا الجمال إلى الحق كما يبدو فى قراءاتهم للقرآن. وحولوا الطاعة بالتصوف إلى محبة. وقدسوا النساء كما قدسوا الرجال. وجمعوا بين عقائدهم السنية ومحبتهم لآل البيت. ولاشك فى أننا نستطيع أن نتحدث عن إسلام مصرى له طابعه الذى يختلف به عن الإسلام الإيرانى أو الإسلام الاندونيسى. وكذلك نستطيع الآن أن نتحدث عن إسلام أوروبى يتبنى القيم الإنسانية التى بلورها الأوروبيون فى حضارتهم الحديثة وفى مقدمتها الحرية، واحترام العقل، والتسليم بحق البشر فى البحث والمعرفة والإبداع واكتشاف المجهول، والفصل بين الدين والدولة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. فإذا كان هذا الإسلام الأوروبى لم يتبلور بعد وإذا لم يكن فى استطاعتنا أن نتحدث عنه الآن ففى استطاعتنا أن نتنبأ بظهوره لأننا جميعا فى حاجة إليه!