&&بكر عويضة&&
لم أعد أتذكر كم مرة شرحت لجارتي الإنجليزية بعض شعائر الحج. ورغم أن الجارة محافظة جدًا، ويهمها طقس إنجلترا أكثر مما يعنيها أي أمر، لكنها تهتم بما غمض عليها مما تسمع أو تشاهد وتقرأ، فتسأل. ما يصعب على عقل جارتي فهمه، كلما شرحت لها رمزية رمي الجمرات، تعبّر عنه بتساؤل يضج بالحيرة، إذ تقول: حسنًا، إنكم ترمون رمز الشيطان بالحصى، لكنكم تتراشقون بحجارة الاتهامات فيما بينكم، وإلا أخبرني لماذا الضجيج الإيراني كل موسم حج؟ قبل الإجابة، تعاجلني بتساؤل إضافي: بالمناسبة، أليست أميركا هي شيطان حكام إيران الأكبر؟ أجيب: نعم، هذا ضجيج آخر متواصل منذ سنين. ترد بشيء من التحدي: إذن لماذا تعقد طهران صفقات بزنس مع واشنطن؟
لو اعترفت للجارة الإنجليزية كم يصعب عليّ كمسلم، كما ملايين غيري، فهم معنى إصرار أهل الحكم الإيراني على افتعال أزمة الحج سنويًا، فالأرجح أنها إما لن تأخذ كلامي على محمل الجد، أو أنها سوف تسخر شامتة. صحيح أن ضمان المصالح جزء من التعامل السياسي بين دوّل العالم قاطبة، إنما هل من الضروري أن يربط طرف ما الحرص على مصلحته بالنيّل من مكانة غيره؟ كلا، بالتأكيد. لكن المراقب المتابع ليس بحاجة لكثير جهد كي يلحظ سعي أهل الحكم الإيراني، منذ بدأ الزمن الخميني، إلى النيّل من مكانة المملكة العربية السعودية ودورها الإسلامي، أكثر من حرصهم على تأمين سعي حجاج بلدهم بين الصفا والمروة. أحد مظاهر هذا النيّل من المكانة والدور، يندرج في توظيف فريضة الحج ضمن أجندة خلاف طهران مع المواقف السعودية. والأسوأ هو استغلال أي حادث مأساوي لتأجيج المشاعر وتهييج الأحاسيس ضد بلد بأكمله. من الصعب إدراج هذا التصعيد في سياق النقد الهادف للوصول إلى حلول. الهدف هنا هو النيّل من مكانة دولة، والمساس بحقها في أن تمارس سيادتها فوق أرضها.
منذ شغب حرس إيران الثوري بمكة (1987)، الذي بدا يومها استنساخًا لفتنة جهيمان العتيبي (1979) أكدت شواهد عدة نزوع إيران الخميني على نحو ممنهج لاستغلال موسم الحج بقصد العبث باستقرار المملكة العربية السعودية وأمنها. إلى ذلك، ليس من المستبعد أن بين دوائر الحكم الإيراني من يعمل لهدف أبعد هو تفتيت السعودية تمهيدًا لإتمام إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتناسب مع طموحات أهل الحل والربط في قُمّْ تحديدًا. وحتى لو لم تكن هناك مخططات، فالأرجح أن الرغبة موجودة، وتعبّر عنها توجهات طهران الإعلامية بشكل صارخ. تكفي ملاحظة كيف يجري النفخ بأي خبر يعني الوضع السعودي، بقصد التضخيم السلبي. ليس صعبًا على حرفيي مطابخ الصحافة، والإعلام عمومًا، ملاحظة ذلك. تقرأ بعض العناوين، وأحيانًا في صحافة دولية يُفترض أنها رصينة، فتتخيل أن الدولة السعودية، بكل ثقلها الاقتصادي وحجم إمكاناتها، محليًا ودوليًا، لن تعمِّر حتى مساء نهار ذلك العنوان. ما الهدف من هذا؟ إنه تعبير عن تفكير رغبوي دفين يصب في الهدف البعيد ذاته، انهيار المملكة العربية السعودية.
ليس مطلوبًا أن تكون منسجمًا مائة في المائة مع أي موقف لأية دولة، سواء السعودية أو غيرها. مواطنو الدول أنفسهم، بما فيها السعودية، باختلاف مشاربهم ودرجات اهتمامهم، صاروا يمارسون التعبير عن خلافهم مع مواقف حكوماتهم. من لا يدرك هذا التغيّر يبدو كمن يعيش بكوكب آخر، كأنه ليس مدركًا أن الصحافي الأول الآن هو المواطن ذاته، وأن رأيه قد يكون أهمّ عند صانع القرار من رأي مفكر. ليس المشكل في الخلاف، إنما في الغرض منه وفي أسلوب التعبير عنه.
تعجب جارتي من «بزنس» طهران مع واشنطن الخاص بالملف النووي، فكيف لو حكيت لها عن صفقة «إيران - غيت»، الفضيحة الأشهر مذ زمن الخميني - ريغان، التي كشفها الصحافي حسن صبرا على صفحات مجلته «الشراع»؟ أليس الأعجب أن يظل هناك من يصدق وقوف إيران مع طرف فلسطيني أو أكثر، بلا قيد أو شرط مسبق؟ بلى. قبل أيام سمعت من ينقل عن صحافي إيراني معروف في أوساط الصحافة الدولية قوله إن العداء بين إيران وإسرائيل، أيًا كانت هويّة الحكم فيهما، مستحيل لسبب بسيط، هو أن تقدم العرب خصم لكليهما. هل يضع ذلك القول تلك المعادلة في إطار معقول؟ أترك الإجابة لغيري، إنما أختم باستحالة لعلها مماثلة، أعني التوفيق بين ضجيج التشكيك بأهلية الدولة السعودية وبين زعم الحرص على أمن الحجيج، ذلك أنهما لا يلتقيان.
&
التعليقات