&غسان الإمام&

الهزائم العسكرية تكون دائمًا حافزًا لدى الشعوب المهزومة، لاعتماد بديل نهضوي يستوعب التأثير المدمر للهزيمة على النفس. والسياسة. والحاضر. والمستقبل.

راهنت اليابان وألمانيا، بعد الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية، على التنمية الاقتصادية. والاستقرار الاجتماعي والسياسي، لمواصلة التقدم الذي عطلته الحرب. وكان البلدان من الثقة بالنفس، إلى درجة مهادنة ومصالحة العدو (أميركا). والتخلي عن العنف العسكري. ثم تبني المشروع الديمقراطي لهذا العدو.

وهكذا، تمكن البلدان من إعادة بناء ما دمرته الحرب. بل حققتا تقدمًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يفوق ما حققته الدول المنتصرة عليها، كبريطانيا. وفرنسا. وغدت ألمانيا بالذات قاطرة أوروبا الاقتصادية. وقائدة مسيرتها الاتحادية التي وضعت نهاية للصراعات. والنزاعات. والحروب، في القارة القديمة.

وتتنافس اليوم اليابان والصين على مركز البلد الثاني في الإنتاجية. وإجمالي الناتج الوطني، بعد الولايات المتحدة. فيقترب في اليابان من خمسة آلاف مليار دولار. في مقابل ثمانية آلاف مليار دولار في الصين. في حين تحافظ الولايات المتحدة على المركز الأول (17 ألف مليار دولار).

في المقارنة، يصح التساؤل عن أسباب نجاح اليابان وألمانيا في التغلب على الهزيمة. وإخفاق العرب في تقديم أنموذج إنساني. واجتماعي، يتغلب على الآثار النفسية للهزائم التي ألحقتها أوروبا. وأميركا. والمشروع الصهيوني بهم، منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم.

لماذا ينحدر البديل العربي للهزيمة، ليغدو «الأنموذج الداعشي» في العنف. والقتل الجماعي. والتزمت الديني. والقمع الاجتماعي، هو هذا البديل المخجل إنسانيًا. وحضاريًا؟ بل لماذا يجد «البديل الداعشي» هذه الحظوة لدى جيل شبابي، يرمي نفسه في التهلكة، دفاعًا عن هذا الخيار البائس الذي يعرض العالم العربي لغزوات مضادة في الجو. والبر. والبحر؟

ليس لديّ بديل جاهز أقترحه. بل أقول إن تقديم بديل يستحيل ما لم نملك الاستعداد النفسي. والاجتماعي. والسياسي. والديني للاستماع. والتفكير. والتحليل. والحوار. ثم الانسحاب من ثقافة الهزيمة. واليأس. والممانعة. والمقاومة. فقد تلاشت كلها عندما اصطف الذين روَّجوها وراء نظام وحشي. وقاتلوا معه شعبه.

لكي نعثر على بديل، لا بد من البحث أولاً عن الأسباب التي أدت إلى الانحدار إلى المستوى «الداعشي». ولعل تلاشي الانسجام الاجتماعي بعد الانتفاضات العربية. وغياب التجربة السياسية الحرة، كانا من أسباب اللجوء إلى الدين وحده لاستنباط البديل.

لا بأس، غير أن المقاربة الدينية كانت طافحة بأخطاء التلقين. والتحفيظ، من دون تفسير. وشرح. وتحليل. وتعويد العقول على النقد. والاستفسار، لتكييف الإسلام مع حاجات العصر. ذلك ممكن من دون مس بالثوابت المقدسة. فلا نقاش جدليًا لحدود الشريعة، وإلا غرق المسلمون في نزاعات أكثر دموية، هم في غنى عنها.

وهكذا، كان اعتماد الإشباع الطقوسي (الشعائري) للمجتمع، حافزًا للقوى «الإخوانية» والشيعية لتسييس الدين. ومناصبة المرجعيات الدينية التقليدية مكانتها الأثيرة لدى النظام السياسي. في المقابل، اضطرت هذه المرجعيات إلى سلوك المبالغة في التزمت المتقشف في تفسير الدين، للحفاظ على حلفها مع النظام. والاحتفاظ بهيبتها وهيمنتها على الشارع الشعبي المحافظ أو المتدين.

مع الانتفاضة، بات العنف أداة الفرض لدى التنظيمات الدينية المسلحة. وأداة القمع لدى النظام المتمسك بالبقاء. وفي المواجهة بين العنف والقمع، نشأت تنظيمات أشد تزمتًا في التأويل الديني. ولكي تكون مقبولة لدى المجتمعات السنية، فقد مارست الإرهاب المسلح ضد النظام العربي. وضد الأنظمة والمجتمعات الغربية. بل أيضًا ضد المجتمعات السنية. والشيعية (العراق مثالاً)!

خسرت التنظيمات (الأفغانية) حربها ضد أميركا والنظام العربي. فورثتها تنظيمات أكثر تشددًا وعنفًا، مثل «القاعدة» المنتشرة في بلدان المغرب العربي. وأفريقيا الغربية. واليمن. وباكستان. وأفغانستان. وفرعها السوري (جبهة النصرة).

كما القمع يولد القمع. كذلك فالعنف يوَّرث العنف. من رحم «الإخوان» ولدت التنظيمات الأكثر تزمتًا. وهذه أنجبت «القاعدة». ومن رحم «القاعدة» ولد تنظيم داعش الذي أقام دولة مزعومة أشد قسوة وعنفًا. «داعش» كلفت نفسها الانتقام عنوة للسنة، بعمليات انتحارية. وقتل جماعي في أميركا. وأوروبا. ولم تسلم منها المجتمعات العربية، كالعراق. وليبيا.

العرب الآن أمام أنموذج «ديني» غير مقبول منطقيًا. وعقلانيًا. وفشلت في منافسته والقضاء عليه المرجعيات الدينية التقليدية و«الإخوانية». فتركت المهمة للنظام العربي. ولمن أيضًا؟ آه. لأميركا!

القضاء على الكيان «الداعشي» ليس استحالة. لكن ماذا نفعل بـ«الدواعش» الهاربين غدًا من العراق. وسوريا. وليبيا؟ ماذا يفعل الغرب بـ«الدواعش» المنتحرين خارج السرب؟ بؤس هذا العالم لا نهاية له مع هذا الانتحاري المصمم على الانتحار وسط المدنيين الأبرياء.

أعني كيف نعثر على بديل إنساني للبديل الداعشي والقاعدي؟ هل البديل التقني. الاقتصادي. الصناعي الذي قدمته ألمانيا. واليابان؟ العرب لا يملكون هذه التقنيات. والعامل العربي لا طاقة له على منافسة إنتاجية العاملين الياباني والألماني.

«حماس» فضلت النزول تحت الأرض لحفر الأنفاق. بدلاً من العناية بالمزارع التي تركها اليهود وراءهم. رفضت «حماس» الرهان على التقدم الاقتصادي والاجتماعي لتحرير فلسطين. والانتقام من أميركا.

الأمر محير. هناك من يقول: هاك محمود عباس مثالاً. راهن عباس على التطوير الاقتصادي في مواجهة إسرائيل. فأوغلت إسرائيل في استيطان الضفة، ليغدو البديل إلغاء حل الدولتين. وإقامة دولة الأبارتيد العنصرية. وهناك فلسطينيون يراهنون على تعطيل الحل السياسي منذ أكثر من خمسين سنة. فيجدون أن إسرائيل قضمت أكثر فأكثر من الأرض والحقوق.

«الداعشية» ليست بديلاً. إنها مخالفة دينية صريحة. مع ذلك، هناك شباب لم تتوفر لهم فرص تنويع الثقافة، ليتحرروا من الهوس الديني الذي يجعلهم أدوات طيِّعة لتنفيذ «نصيحة» أبو محمد العدناني (صادته أخيرًا طائرة درون أميركية): «حطم رأسه بصخرة. أو اذبحه بسكين. أو ادهسه بسيارتك. أو ألق به من مكان عال. أو اخنقه. أو سممه». كأن هؤلاء الشباب المضللين لم يقرأوا. ولم يعتبروا بالحكمة القرآنية: «ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيمًا».

كيف تنتهي حروب الهوس الديني؟ لا تنتهي الحروب الدينية بهدنة. أو حل سياسي. أو بتبويس الشوارب واللحى. فهي ببساطة تذوب. تختفي. تنطفئ. تتلاشى. هكذا نسيت أوروبا حربها الدينية التي استعر لهيبها مائة سنة. باتت كنائسها. وكاتدرائياتها التاريخية غاصة بالسياح. لا بالمصلين، إلى أن ذبح شاب «داعشي» راهبًا عجوزًا في كنيسة. فأخفق في إلهاب حرب دينية بين الكاثوليك والمسلمين.

&&