مأمون فندي 

 من كان يمشي في شوارع لندن السبت 20 يناير (كانون الثاني) 2017 وشهد الحشود العارمة التي زادت على المليون، معظمها من النساء، لأدرك للوهلة الأولى أن العنوان هو: لندن ترفض ترمب، أو النساء يرفعن الكارت الأحمر لدونالد ترمب. أما إذا أدركت أنه وفي اللحظة ذاتها حدثت مظاهرات شبيهة في أكثر من مائة مدينة من مدن العالم كلها كانت ضد دونالد ترمب وموقفه من المرأة والأقليات، لأدركت أننا أمام عالم جديد، عالم ما قبل ترمب مقابل عالم ما بعد ترمب. وأن العالم كله أو جزءًا كبيرًا منه يتأهب لكارثة أو يحذر من كارثة. أيضًا إذا تمعنت المظاهرات في معظم مدن العالم وفي اليوم ذاته وبتنسيق متقن كذلك، تدرك أننا في ذروة العولمة التي تكون فيها أميركا بمثابة المركز مقابل الشعوب والدول الأخرى، تدرك أننا أمام لحظة عالمية وأن سياسات رئيس أميركا بالضرورة ستؤثر في حياة المواطنين في كل أنحاء العالم، لا أميركا وحدها، كما أن رئيس أميركا بحكم الواقع لا بحكم القانون هو أشبه برئيس العالم، فلماذا لا يكون العنوان إذن «ترمب لا يقسم المجتمع الأميركي بل يقسم العالم»، أم أن العنوان الأفضل لما رأيناه بالأمس «حركة النساء المعولمة في طليعة المواجهة مع ترمب وسياساته»، أم أن اللحظة العالمية هي لحظة الشعوب وليست لحظة القادة؟ كلها عناوين ممكنة وتعبر عن جزء من الحقيقة، ولكنها لا تصف كل شيء.
لا شك أن دونالد ترمب رئيس أميركي مثير للجدل ومن اللحظة الأولى لانتخابه، وإلا ما ثارت كل هذه العواصم من بانكوك إلى واشنطن مرورًا بباريس ولندن. هل هناك خطة عالمية تقودها النساء لإسقاط ترمب قبل الأوان؟ أم أن النساء مجرد أداة في تلك الحملة العالمية ضد رئيس أميركا الجديد؟ وأنا أكتب هذه الأسئلة أدركت للحظة أن جزءًا من أسئلتي عن ترمب لا يختلف كثيرًا عن أسئلة أصحاب نظريات المؤامرة ممن لم تتح لهم فرصة التعلم أو الخبرة في قراءة الأحداث العالمية.
ومع ذلك لا بد من ربط الأحزمة استعدادًا لإقلاع طائرة دونالد ترمب، وما يهمنا هو تأثيرها على منطقتنا العربية. بداية لو فعل ترمب ما وعد به بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، فسيكون بهذا هو أكبر أداة تجنيد للمتطرفين، وسيدفع السواد الأعظم من أبناء المنطقة إلى التطرف للدرجة التي تبدو فيها حركات مثل «القاعدة» و«الجهاد» و«داعش» وكأنها حركات معتدلة إذا ما قورنت بالتطرف المقبل بعد نقل السفارة إلى القدس. لا يعرف ترمب، وربما نحن لم نعرف بعد، مدى تأثير لمس هذا العصب المكشوف (القدس) ومدى تأثيره في تغيير المشهد في الشرق الأوسط برمته. إننا حتى هذه اللحظة لم نختبر تأثير مثل هذه الحركة. ولكن من الوارد أن هذا سيأتي بمسلمين من كل أنحاء العالم لمواجهة أميركا وإسرائيل، وبهذا يحصل دونالد ترمب على ما تمناه، ليس مواجهة مع التطرف الإسلامي كما جاء في خطابه، وإنما مواجهة مع العالم الإسلامي كله. إن نقل سفارة أميركا إلى القدس يبدو أمرًا هينًا، ولكنه أمر شديد الخطورة وقابل للانفجار في أي لحظة ومعه تنفجر المنطقة برمتها، فهل هذا هو المخطط؟
مهم جدًا أن ندرك أن أول ردة فعل أوروبية على خطاب دونالد ترمب جاءت من نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الذي حذر من نغمة الانغلاق والعنصرية التي تغلف خطاب ترمب. والألمان لديهم حاسة خاصة في تلمس أو شم رائحة العنصرية والفاشية.
إن السياسة في معظمها ليست النتائج المحسوبة للأحداث، ولكن النتائج غير المحسوبة تمثل الكتلة الأعظم منها، وإن النتائج غير المتوقعة وغير المحسوبة لسياسات ترمب في منطقتنا ستكون كارثية في أحسن الأحوال.
كتبت في السابق أن ترمب رجل الأعمال وتاريخه يوحيان أنه ليس رجل مواجهة، وأنه كلما كان يواجه مشكلة اقتصادية، كان يعلن إفلاسه بطريقة منظمة تضمن له أن شركات التأمين ستدفع له التعويض. فهل سيمارس السلوك ذاته في السياسة وينسحب من المواجهة ساعة تتعقد الأمور؟ ربما، ولكن السياسة أعقد بكثير من الاقتصاد. فإعلان الإفلاس في السياسة له تبعات كبرى، ليس على من أعلن إفلاسه، بل في حالة ترمب له تبعات على العالم كله، كما أنه لا يمكن التفكير في إدارة أميركا كشركة، ولا العالم كشركة، يكون ترمب رئيس مجلس إدارتها، كما يقول بعض عباقرة الإعلام في مصر المحروسة.
يتصور البعض في منطقتنا أن دونالد ترمب رجل أعمال «يفهم في الفلوس واحنا عندنا فلوس»، ويمكن أن نصل لصفقة حول سوريا والعراق وفلسطين وإيران واليمن وكل القضايا العالقة. بالطبع هذا تعريف هو قمة التحليل بالتمني. فإذا ما نظرنا إلى قائمة المشكلات التي تحدث عنها من سوريا للعراق لليمن، ونسينا ليبيا وتأتي فلسطين في ذيل القائمة، لأدركنا أن هذه القضايا تحتاج إلى أكثر من مدة رئاسية واحدة لحلها.
أما موقف ترمب من الاتفاق النووي الإيراني فيمكن أن يقسم العالم إلى معسكرين؛ المعسكر الأميركي من ناحية، والأربع دول الكبار أعضاء مجلس الأمن مضافًا إليها ألمانيا. فالاتفاق النووي كان بين إيران والست دول الكبرى وانسحاب أميركا من الاتفاق يضعها في مواجهة مع بقية الدول الكبرى، فهل يستطيع ترمب وإدارته تحمل هذه المواجهة؟ وهل العالم أو النظام العالمي يستوعب هذا الانقسام؟
إن الأقدام التي خرجت في شوارع أكثر من مائة مدينة في العالم، لم تكن أقدامها تدق أسفلت الشوارع، وإنما كانت تدق ناقوس الخطر، محذرة من المقبل، أو على الأقل تنبيهًا لمن في أميركا وفي خارجها بالتحسين للمقبل في عالم ما بعد ترمب. وأعتقد أن الرسالة قد وصلت إلى الجميع، وأولهم دونالد ترمب.