عبد الوهاب بدرخان

 هذه هي إذاً استراتيجية ترامب، وقد صيغت بمساهمة منسقّة بين البيت الأبيض والبنتاجون والخارجية، بعنوان واضح: المواجهة الشاملة مع إيران. لم يقترب أي من الرئيسين اللذين سبقاه إلى هذا الحدّ من إبراز التورّط الإيراني في الإرهاب، بل كانا يكتفيان بالإشارة إليه من قبيل تحذير إيران، وكانت الذريعة أنه عندما تعلن أميركا رسمياً أن بلداً ما يتبنّى الإرهاب ويدبّر عمليات يُقتَل فيها أميركيون فلا بّد أن تردّ، ولم يكن جورج بوش الابن ولا باراك أوباما مستعدَّين لهذه المهمة، فالأول غرق في حرب العراق والثاني هجس بالانسحاب من كل مكان. أما ترامب، فيبدو أنه تخطّى حاجز التردّد، فهل كان خطابه الأخير إبلاغاً أولياً بأنه يريد أن يتحرّك؟ ربما، لكن ليس قبل أن تبني واشنطن «قضية» متكاملة ضد إيران، وليس قبل أن تهيئ الرأي العام داخلياً وخارجياً، وليس بإرسال جنود بل ب «حرب بالوكالة».

لم يُقدِم ترامب على ما حذّرت منه عواصم الحلفاء والخصوم وبعض إدارته، فلم ينسحب من الاتفاق النووي ولم يُصادق عليه، لكنه تركه في مهب الريح. فإمّا أن يُعدّل أو أنه لن يعود معنيّاً به، وفي المرّة المقبلة قد يعلن إلغاءه، لأنه مقتنعٌ تماماً بأن هذا الاتفاق حقّق مصلحة إيران أولاً، وبالتالي مصالح دول أخرى، أما أميركا فلم تجنِ منه شيئاً، وكأنها فاوضت النظام الإيراني لإضفاء شرعية دولية عليه أو لتمكين شركاء التفاوض الآخرين من إبرام صفقات معه. أكثر من ذلك، بدت أميركا كما لو أنها خُدعت طوعاً، إذ إن طهران استخدمت الاتفاق لتتصرّف كأنها اكتسبت قبولاً ومشروعية للدور التخريبي الذي بدأته قبل المفاوضات وتوسّعت به خلالها.

صحيح أن ترامب لا يستطيع أن يفرض على مجموعة ال 5+1 معاودة التفاوض على الاتفاق وتعديل بعض البنود، بل إنه لا يستطيع إلغاء وثيقة صادق عليها مجلس الأمن، لكنه أحدث لتوّه إرباكاً كبيراً لإيران أولاً التي كانت لوّحت أخيراً باعتبار الاتفاق لاغياً إذا انسحبت أميركا منه، إلّا أن التزامها «الدقيق» بالاتفاق، وبشهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، لا يسمح لها بتنشيط برنامجها واستئناف تخصيب اليورانيوم، طالما أن الدول الخمس الأخرى متمسّكة بالاتفاق. إما الإرباك الآخر فللأوروبيين خصوصاً لأن المسألة لم تعد تقتصر على الشأن النووي بل تتمثّل بالمواجهة مع إيران التي يدعوهم ترامب للانضمام إلى أميركا في خوضها. وحتى روسيا والصين، المستفيدتان الكبريان من «اقتصاد العقوبات» الإيراني، لا يمكنهما تجاهل خطورة الأزمة المستجدّة.

قد يكون اتضح الآن ما تعنيه واشنطن بقولها إن إيران انتهكت «روح الاتفاق». فمن المؤكّد أن جانباً كبيراً من حوارات جون كيري - محمد جواد ظريف، في سياق المفاوضات وعلى هامشها، تناول مسألة الصواريخ البالستية ويُفترض أن المفاوض الأميركي حصل على «ضمانات» سمحت له بالموافقة على النص المطّاط الذي تضمّنه الاتفاق في شأنها. هذا أحد العناصر الأربعة ل «روح الاتفاق»، أما الأخرى فمن شبه المؤكّد أنها تطرّقت إلى ملفَّات «تطبيع العلاقات الثنائية» و«دعم الإرهاب» و«استقرار المنطقة». هنا يُفترض أيضاً أن المفاوض الأميركي تلقّى أجوبةً عميقة ومطمئنة، ما جعل واشنطن تعتبر الاتفاق فور توقيعه «تحوّلاً استراتيجياً»، لكن تبيّن لها لاحقاً أنه لم يكن التحوّل الذي تمنّته، وأنه فات الأوان لتصويبه.

استعرض ترامب في مسحٍ تاريخي لافتٍ وغير مسبوق ثلاثة عقود ونيّف من النهج الإرهابي الإيراني الذي قتل مئات الجنود الأميركيين تحديداً في لبنان والعراق، ولم ينسَ رهائن السفارة في طهران وتفجير الخُبر، وصولاً إلى تهديد أمن الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب. وقبل يومين عرضت الخارجية الأميركية ملف «حزب الله»، فيما يراجع «البنتاجون» خططه ويحدّد مجالات الضغط على إيران. كل ذلك يشي بتصعيد مطّرد نحو المواجهة، وقد أدّى النقض المنهجي للاتفاق النووي إلى مقارنة أجراها محمد البرادعي مع أجواء 2002 - 2003 عندما تجاهلت واشنطن تقارير المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق. لا شكّ أن «استراتيجية ترامب» شكّلت الإنذار الأميركي الأهم الذي تتلقّاه طهران في شأن سجلها الإرهابي وسياساتها التوسّعية.