طيب تيزيني 

إن رهاننا مثقل بالفقر الذي لا يُبشّر مبدئياً بأي احتمال إيجابي ننطلق منه لإعادة بناء حاضرنا المستقبلي، فلا الأسلاف ولا الأخلاق يمكنهما مساعدتنا والدفع بنا إلى المستقبل، وهذا ما يقلق المفكر السوري الراحل حافظ الجمالي، الذي قال إن غياب البعد المستقبلي عن حياتنا هو سبب مراوحتنا في مكاننا، أو تخلفنا على الأصح. فذلك صحيح جداً. وصحيح أيضاً أن هذا الغياب جزء من بنية عقلية كاملة متركزة على الذات، وبالتالي مركزة على الحاضر. فحافظ الجمالي يرفض كلا العصريْن، الماضي والحاضر. فما الذي نفعله ونلجأ إليه ها هنا؟ إنه لم يلجأ للبحث عن الحل، لقد فعل ذلك آخرون غيره.

في ذلك الموقف الإشكالي يأتي شارل مالك ليحسم هذا الموقف الذي يصفه بكونه حالة مأساوية، بعد ذلك يتساءل: هل إن فهم التراث متوفر كيانياً في لبنان وفي العالم العربي والشرق على العموم؟ هل الحقيقة هي أن غيرنا فقط يفهمنا على حقيقتنا، بما في ذلك حقيقة أننا لا نفهم غيرنا ولا نفهم حتى أنفسنا؟ وإذا كانت الحال هكذا، ألسنا في وضع سقيم مأساوي؟

وتلك الإشكالية المأساوية تقود شارل مالك إلى «شطآن الآخر»، الغرب، بحيث يُفضي ذلك إلى إسقاط خصوصية هويته التاريخية الوطنية القومية.. ومن الناحية المعرفية لا يتبقى لنا شيء سوى «الدعوة لذلك الآخر» ليحتل أوطاننا ويعيد بناءها وفق مصالحه ومشاريعه: إنه الاستعمار بفصيح العبارة. وهكذا ينتهي المشهد بفتح الأبواب للآخر، الغرب: إنه نمط من «الاغتراب الفكري» ولا نريد أن نتجه نحو الشرق، أي عالمنا العربي الشرقي، بقدر ما يتعين علينا أن ننتقل إلى الشطر السياسي من المسألة، فنشتغل في الحقل السياسي والمعرفي، وهو ما يعني أن نعمل على إعاقة بناء الوطن العربي بالتساوي مع مشروع (أو مشاريع) نهضوية تحافظ على كرامتنا، وتفتح الأبواب أمام المستقبل، وذلك يداً بيد، للتبشير بنهايات الاستبداد والفساد، والدخول في عالم الحداثة برائحة الخصوصية العربية، وبالحد المناسب من الاستقلال السياسي، دون أن ننسى الفعل التاريخي الديمقراطي الغائب، عموماً عن معظم الحياة العربية.

وبالطبع، لا يجوز أن ننسى أن العالم العربي له شكل في الأساس، بنية ناظمة ورابط بين الأقطار العربية، ولكن مع الاحتفاظ بالخصوصيات النسبية، ومن ثم فإن أمامنا هنا ما يتحدد بالصيغة التالية: كل من الأقطار العربية تمتلك خصوصية نسبية في إطار العمومية، التي تربط بين الأقطار العربية مجتمعة، وهذا يسمح لنا بأن نضبط العلاقة بين تلك الأقطار بحدين اثنين، العام وهو الناظم لكل الأقطار المذكورة مجتمعة، والخاص الذي يفصل نسبياً ما بين تلك الأقطار، ما يسمح لنا بأن نضبط العلاقة بين المستويين، العام والخاص، على نحو يسمح بضبط تلك العلاقة بـ«الجدلية».

ها هنا نكون قد ضبطنا نمط العلاقة بين العالم العربي كله، وبين الأقطار العربية كلاً على حدة، وبهذا نكون قد أطحنا بالانتقائية التلفيقية، التي يأخذ بها كُتّاب وباحثون على صعيد العلاقة بين الشرق والغرب، أو بين الجزء والكل، التي تظهر أثناء الحديث عن شرق وغرب وبين متقدم ومتخلف، إنها علاقة جدلية فاعلة بين الطرفين، أو بين الحضارتين الاثنتين، وإذ نسير بهذا الاتجاه الجدلي، فإنه يصبح غير مقبول أن نتحدث عن طرف متقدم بإطلاق، وعن آخر متخلف بإطلاق أيضاً، وكما نلاحظ فإن الحديث عن حقلين أحدهما في القمة، وثانيهما في القاع، إنما هو وهم ونزعة تاريخية موبوءة بأحكام القيمة.

إن ما قد نعتبره مطلقاً لا نستطيع إثباته، لأننا نحن النسبيّين لا نستطيع إثبات كونه مطلقاً من حيث هو، وإنما من حيث نحن، ومن شأن هذا أن يسقط أو يشكك في نظرية الأعراق التي تنطلق من أن البشر درجتان اثنتان، واحدة متقدمة وأخرى متخلفة، كما يزعم الكثيرون من «العلماء». فالبشرية كلها تلتقي في كونها «بشراً» غير القادرة على الوصول إلى «المطلق»، لأنها تنتمي لعالم النسبيات في الحياة كما في البحث العلمي، وضمن هذه النسبيات تتحدد احتمالات البحث الفكري والعلمي.

إن ذلك التوهم ملتحفاً بسجف من الأيديولوجية العنصرية والنخبوية، المنطلقة من ثنائية المتقدم في أساسه والمتخلف في أساسه، تنعدم مصداقيته المعرفية والبشرية. وعلى ذلك منفرداً ومجتمعاً، تجد النظرية النخبوية نهايتها، ليبرز الفكر التاريخي، الذي ينظر إلى البشرية في كونها بصفتها حالة مفتوحة بانفتاح البشر -في نسبيتهم- أي بمثابتهم حالة وجودية تبقى في حالة الصيرورة -السببية طبعاً: البشر يصنعون تاريخهم وتراثهم، بقدر ما يضبط هذا التاريخ حدودهم وطاقاتهم وآفاقهم.