فهد عامر الأحمدي

الأمم مثل البشر تمر بمرحلة الطفولة والمراهقة والشباب، قبل أن تدخل مرحلة الكهولة والشيخوخة وخرف العـقل...

وفي حين يرى البعض أن أمتنا العربية وصلت إلى المرحلة الأخيرة (خرف العقل) سأكون متفائلاً وأفترض أنها تمر اليوم بمرحلة مراهقة طائشة تجاوزتها أوروبا منذ قرون.. سأختار عودتها لمرحلة الطفولة وعدم وصولها لمرحلة النضج والاعتماد على الذات - ودخول عصر تنوير خاص بها...

الأمم العظيمة (لا تموت) بــل تعود لتكرار مراحلها العمرية بعد كل انهيار.. استنارت أوروبا في عهد الفلاسفة الإغريق ثم الحضارة الرومانية، قبل أن تدخل مرحلة الانهيار والانتكاسة الفكرية في القرن الخامس ميلادية.. دخلت عصور الظلام حين انهارت الحضارة الرومانية الغربية وسيطرت الأفكار اللاهوتية على عقول الناس ولم يبدأ فيها عصر التنوير الحديث إلا في نهاية القرن السابع عشر في إنجلترا وحقق أقصى ازدهاره في فرنسا ثم بقية أوروبا..

وحين نتحدث عن "عصر التنوير" (وأرجو أن تبحث لاحقاً عن هذا المصطلح) فإننا نتحدث عن ظهور حركة اجتماعية وثقافية وفلسفية تطالب بإعمال العقل وتحكيم المنطق ونبذ الخرافات والوصاية على المجتمع.. حين سئل الفيلسوف ايمانويل كانت عن ماهية التنوير قال: "خروج الإنسان والمجتمع عن مرحلة القصور العقلي". وعرف القصور العقلي بأنه: "عدم القدرة على التفكير الذاتي واتخاذ أي قرار دون استشارة أوصياء على الناس يستفيدون من استمرار الخرافات والأفكار السطحية"..

وكان الإغريق (الأجداد القدماء لليونانيين) أول من نادى بتحكيم العقل ونبذ الخرافات من خلال ديموقريطوس الذي أكد محاسن التشكيك في الأفكار القديمة، وأبيقور الذي نادى بتحرير الناس من الخرافات الوثنية والعيش خوفاً من الآلهة اليونانية...

ورغم أن حركة التنوير الحديثة أخرجت أوروبا إلى عصر المنطق وإعمال العقل، إلا أن الظاهرة ذاتها قديمة وتكررت كومضات متفاوتة القوة في معظم الحضارات (بما في ذلك العصر العباسي حيث نادى إخوان الصفا والمعتزلة بتحكيم العقل وتقديمه على النقل)..

غير أن عصر التنوير الحديث في أوروبا يظل مميزاً وكاسحاً كونـه ترافق (وبشكل لم يحدث من قبل) مع نهضة صناعية ومادية حسمت بما لا يدع مجالاً للشك إيجابيات التفكير العملي والمنطقي ونبذ التفكير الخرافي والجدلي...

وما أراه اليوم أن العرب لا يزالون يعيشون في العصور الوسطى رغم كل مظاهر العصرنة التي يملكونها ولم يشاركوا في صنعها (وكتبت بهذا الشأن مقالاً سابقاً بعنوان: هل يعيش العرب في العصور المظلمة)..

وأعتقد شخصياً أن أمتنا العربية دخلت في عصور مظلمة خاصة بها منذ دمر المغول بيت الحكمة في بغداد وأنهوا حكم العباسيين (الذين تركوا شؤون دولتهم للسلاجقة والفرس والمماليك قبل ذلك بوقت طويل).. واليوم لم يعد بإمكاني الجزم بموعد دخولنا عصر التنوير الخاص بـنـا - وهل تأخره لأكثر جيلنا الحالي سيترك لنا فرصة اللحاق به أصلاً!؟

... أعزي نفسي مجدداً بأن الأمم العريقة -حتى حين تموت- تترك خلفها بذرة حياة يمكن أن تبعث وتنمو من جديد..

ويبقى السؤال: متى تتهيأ التربة المناسبة لنمو هذه البذرة ؟!