خالد أبا الخيل


الصحوة كغيرها من الاتجاهات والحركات الإسلامية الأخيرة تأثرت كثيراً بأدبيات «جماعة الإخوان المسلمين»، فليس سرا أن عقول الكثير من الرموز والشباب تشكلت على كتب هذه الجماعة وأدبياتها

لا أحد يماري في أن ما يسمى «الصحوة الإسلامية» هو من أهم الأحداث الفكرية التي مرت بالمجتمع السعودي، فقد أحدثت زلزالاً كبيراً في القيم والتصورات والمفاهيم لدى الكثير من الشباب، ذلك أنها دفعت إلى المجتمع منظومة فكرية كاملة، وهذا ما جعلها تحرق الكثير من المراحل في تشكيل وعي الشباب وعقولهم، وإرضاء النزعة الفطرية لديهم بالتغيير والقيادة، غير أن هذه «الصحوة» مازالت - في تقديري - بحاجة إلى دراسات علمية جادة تكشف عن مواطن الخلل وجوانب القصور، ولا يستطيع هذا المقال الإحاطة بكل ذلك، لكن أشير إلى أبرز الإشكالات التي ظهرت في خطاب الصحوة، وغني عن القول أننا حينما نتحدث عن الصحوة فإننا لا نعني بحال: التدين الصحيح القائم على الفهم العميق لنصوص الشريعة ومقاصدها، أو صور التدين الصحيحة، فهذه «الصحوة» كانت محل تقدير وتعزيز من ولاة الأمر وأهل العلم- وهي بحمد الله تمثل طبيعة المجتمع السعودي من بدايات تكوينه- وإنما نعني تلك الصحوة المعبأة بالخطاب الحركي المكثف!
ولهذا كانت تمثل نسقاً ثقافياً مختلفاً، يمكن توصيفها وفرزها عن غيرها، ولعل من أبرز إشكاليات هذا اللون من الصحوة إشكالية التوجس والتعبئة. وهذه الإشكالية تعد– في تقديري- من أهم إشكالات الخطاب الصحوي، ولهذا لا أعتقد أننا سنتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن الخطاب الصحوي كان خطاباً تعبوياً مليئا بمفردات التوجس والصراع، حتى ينشأ الشاب – الذي تشكلت رؤيته من هذا الخطاب - بطريقة أصولية خطيرة، يكبر وتكبر معه هموم الهيمنة والسيطرة، ويكون مسكونا كذلك بفكرة الفرز والتصنيف، ومن الذي معه ومن الذي ضده، فيضمر لديه التدين الفطري الصحيح الذي يتعامل صاحبه مع الناس بعفوية تامة، ويحسن الظن بكل من حوله؛ وفي المقابل يقوى لديه جانب التدين الأصولي الحركي الذي يتوجس ويخاف من كل شيء، ويفسر كل التصرفات التي تجري في مجتمعه بأنها تحصل في سياق وسباق التآمر والصراع، وكل التحولات الفكرية التي يشهدها ما هي إلا تجليات لحالة الانتكاس والارتداد التي شاعت في المجتمع، ومن ثم – نتيجة لهذه الرؤية – تبدأ دائرة التدين عنده بالانحسار إلى أدنى درجة ممكنة، فلا يبقى من يتمثل هذا الوصف –بنظره- إلا النزر اليسير من الناس، وهم فقط أولئك الذين يحملون رؤيته، ويؤمنون بأفكاره، ويتمسكون بنفس الآراء والاجتهادات الفقهية التي يتمسك بها، وفي المقابل تتوسع عند هذا الشاب دائرة الانتكاس والنكوص عن الحق، فأي تحول من رأي فقهي – في مسألة خلافية – إلى رأي فقهي آخر هو تعبير صريح عن الانتكاس! بل حتى إن التغير في المظهر يدل عند كثيرين منهم على حالة من النكوص عن الحق! وهكذا جرى اختصار دائرة الإسلام الرحبة والواسعة – بفعل هذا الخطاب المتوجس – إلى دائرة صغيرة لا أعتقد أنه حصل في التاريخ مثلها. ومما يزيد حالة التأزم لدى الشاب حضور نظرية المؤامرة في ذهنه، فهو يعتقد أن كل من حوله يتآمرون على الإسلام، ويكيدون له، ويحيكون الدسائس في الظلام للنيل من الدين، وأن كل تلك المظاهر الكبيرة التي تدل على الخير في بلده إنما هي مساحيق تخفي خلفها الكثير من الدسائس والألغاز! 


أما على مستوى خطاب الرمز فهو خطاب تعبوي بامتياز في كثير من الأحيان، يجعل المتلقي في حالة دائمة من التحفز والاستعداد، خاصة أن الكثير من محاضرات الرموز التعبوية تلقى في المساجد، وهذا– كما قلنا – يمنحها قدراً كبيراً من المصداقية والقداسة، ولهذا لا يستطيع المستمع أن يبدي اعتراضه على ما يطرح فيها من أفكار، بل ليس له الحق أصلا في الاعتراض، فقط عليه أن يطرق رأسه ويستمع! ونتيجة لهذا قفر إلى المراحل المتقدمة من القيادة الكثير من الشخصيات التي لا تملك من المؤهلات إلا مثل براعتها في إتقان هذا اللون من الخطاب. حتى على مستوى خطيب الجمعة – وهي وظيفة شرعية- فالخطيب الذي يتزاحم الشباب على أبواب مسجده - هو– غالباً – ذاك الذي يستعمل وبكثرة مفردات الاحتجاج والتعبئة في خطبته، فتراه يحتج على كل شيء، ويعترض على كل شيء، ويخوف الناس من كل شيء! وخاصة حينما يكون الحديث على مستوى الوطن، فخطابه يأتي – غالباً – مليئاً بمفردات التشاؤم والتوجس والتخويف مما وراء الأكمة! أما حينما يكون الخطاب أمميا موجها للأمة الإسلامية فهنا تتدافع مصطلحات التفاؤل والتبشير على لسانه! ولعل من أبرز تمظهرات التوجس في هذا الخطاب، حالة القطيعة مع الدولة من بعض المنتمين إلى هذا الخطاب، أو الذين تشكلوا على مفرداته، فنتيجة لهذا الخطاب المتوجس تنشأ لدى الشاب حالة تنافر وقطيعة مع الدولة، فيبدأ يتوجس من كل قرار يصدر من الدولة، بل حتى القرارات الإدارية البحتة يتم تفسيرها أحياناً بأنها ليست سوى عملية ذر للرماد في العيون، وأن ثمة ما هو متستر من وراء الأكمة! ولعلنا نتذكر الكثير من المعارك التي جرى استنزاف الشباب فيها، بل والمفاصلة مع الدولة فيها، وهي لا تعدو أن تكون قرارات إدارية مجردة، نظر فيها ولي الأمر للصالح العام دون الشأن الخاص.


لقد تعرض الكثير من الشباب – بفعل هذا الخطاب التعبوي- إلى انكسارات كثيرة، وأصبحت لدى بعضهم حالات ثأر مع الدولة لأسباب متوهمة. ولا أعتقد أننا سنتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن كثيراً حالات الإرهاب تعود بعض أسبابها إلى فواتير هذه الانكسارات، وأشير هنا إلى أن أهم أسباب وجود هذه الإشكالية – في تقديري- لدى الخطاب الصحوي، أن هذا الخطاب لا يرسخ في نفوس الشباب معنى الديمومة والاستقرار، بل معنى الترقب والانتظار، وسبب ذلك أن هذا الخطاب لا ينظر إلى الحياة الدنيا على أنها دار للابتلاء والاختبار، وأن الأصل ألا حساب فيها على الظالمين والمتجبرين، والعقاب للظالمين هو أن «يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار»، وإنما يؤصل -بتطبيقاته – عكس ذلك، وهو أن الدنيا كما هي دار ابتلاء فهي دار حساب وعقاب، ونتيجة لهذا فالشاب يبقى في حالة ترقب وانتظار لعل التاريخ أن يتحول والموازين تتغير، والفجر يبزغ نوره، ولهذا تكثر في أدبيات هذا الخطاب مواعظ الصبر، وأناشيد التبشير بالفجر القادم، وانتظار اللحظة التاريخية الفاصلة، فيبقى الشاب – بسبب هذه التعبئة – يمني نفسه كل لحظة بأن يشارك في التغيير القادم ولو كلفه ذلك حياته. وعامة ما يسمعه الشاب من الخطب والمواعظ والأناشيد تكرس هذا المعنى وتؤكده، فتبقى مشكلة التوجس حاضرة في هذا الخطاب.


ولعل سبب وجود هذا التوجس في خطاب الصحوة يعود إلى سؤال النشأة! فالصحوة كغيرها من الاتجاهات والحركات الإسلامية الأخيرة تأثرت كثيراً بأدبيات «جماعة الإخوان المسلمين»، فليس سرا أن عقول الكثير من الرموز والشباب تشكلت على كتب هذه الجماعة وأدبياتها، خاصة أن كتب هذه الجماعة وتقريراتها كانت تملأ الفضاء في الزمن الماضي، ويكفي أن نعرف – كمثال فقط- أنه في عام 1406 تقريباً نوقشت رسالة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكانت بعنوان «الطريق إلى جماعة المسلمين»، وخلص الكاتب في خاتمة الرسالة إلى أن «جماعة الإخوان المسلمين» هي أقرب الجماعات إلى الحق! وقد قدم للكتاب عند طباعته مستشار الإخوان المعروف علي جريشه، وذلك في نوفمبر 1988م، وهذا يؤكد أن هذا الضخ الإخواني الرهيب في فترة من الفترات لأفكار هذه الجماعة ساعد على تمدد وتغلغل أفكارها السوداء لدى كثير من الشباب في مجتمعنا، ونظراً لكون هذه الجماعة وقعت في موقع المعارض السياسي في بلدها الأم «مصر»، وبسببه دفعت الكثير من الفواتير والأكلاف؛ من المطاردة والسجن والتصفية، فقد صارت هذه الجماعة أيقونة المظلومية والاستضعاف عند كثير من الشباب العربي المسلم، وتحت هذه الأيقونة جرى تمرير كثير من أفكارها لأبناء المجتمعات الإسلامية دون مقاومة تذكر، وعند معارضة هذه الأفكار بمعارضات علمية وشرعية تتم مواجهة النقد وإسقاطه بأنه ليس أكثر من محاولة تنفيذ أجندة السياسيين! وبهذا نجحت في ترسيخ أفكارها وتصوراتها، وتقديمها للناس على أنها التصور الصحيح والكامل للدين بكل أسف!