وسام سعادة 


لئن غالى «حزب الله» ونكب البلد بمفهوم «المقاومة»، وقد أرادها دائمة غير محصورة بموضوع، بل مستمرة بحركة مطلقة، هيَ هو، فقد نكبت القوى المجتمعة على مناهضة استمرار الوصاية السورية، ثم المتلاقي أكثرها على «الممانعة بازاء الممانعة»، ومناوأة «حزب الله» وتغلبيته المسلّحة، بمفهوم «الثورة». ثورة أرادتها هي الأخرى «دائمة»، مع أن نسيجها لم يكن تروتسكياً أو بلشفياً، بل «أهلية بمحلية». رجال أعمال ومستثمرون، ونخب نالت حظها من التعليم العالي، من بينها مثقفون واعلاميون، وكوادر من الطبقة الوسطى، وناشطو جمعيات، وأعيان مخضرمون. لا تختلف «أهلية» هذا التركيب كثيراً، ان قصدنا بها أحزاب 14 آذار، أو مستقلّيها.

فعلام إكثار الحديث لسنوات طويلة عن «ثورة»، وإلزام النفس بجعلها دائمة، مستدامة؟ للاشارة الى ديناميات جماهيرية متوثبة؟ صارت تفصلنا عنها سنوات طويلة. لبناء خطاب قائم على «المارتيرولوجيا الكفاحية»، أي الاستحضار النضالي المستدام لمعمودية الدم. مع الوقت صارت المارتيرولوجيا تستحضر لتبرير أي شيء، وكل شيء. فعلاً ما هو هذا الشيء الذي ظلّ يبرّر كل هذه السنوات الحديث عن «ثورة»، ثورة الأرز؟

داهمنا «الربيع العربي» عام 2011. ومن بعد تردد، صار خطاب «ثورة الأرز» يصنّف نفسه من ضمن هذا الحراك الشعبي العربي الهادر، وتحمّس أكثر شيء للثورة السورية، وراهن على ان «ثوريته» المجازية ستتحقق بتمامها على الارض السورية. كابر الآذاريون على الطبيعة غير الثورية، بل المحافظة، التقميشية، للكيان اللبناني، وعلى الاختلاف بين سياق انتفاضة اللبنانيين على الوصاية السورية وبين سياق الانتفاضات الشعبية الربيعية العربية، وعلى عدم قدرتهم، على امتلاك منظار شامل لتحليل قومة الشعوب العربية، ثم نهوض كذا ثورة مضادة في نفس الوقت لمسخ هذه القومة وقمعها.

مضى الربيع العربي الى حال سبيله، وظلت «ثورة الأرز» تسمي نفسها ثورة، وتستنهض نفسها كثورة في الأدبيات والشفهيات، وتتأرجح بين نوستالجيا البدايات، وبين انتظارات لمواقيت خلاص نهائي تتأجل.. لكن المشكلة الاكثر جسامة ان هذه الحالة التي تستمد شرعيتها من كون المشروع المضاد لها، الوصاية السورية ثم «حزب الله»، هو مشروع «لا يطاق»، ظلت تجهد نفسها بزج ذواتها وشخصياتها وحركاتها وشعاراتها في قوالب «الثورة»، والخطاب الثوري، مع انّ لا شيء يفيد «الثورة» في كل مقالها ومجالها، فلا قاعدة اجتماعية لتحويل جذري للحياة والمعاش في المجتمع اللبناني، ولا نمط جديد غير معهود في السياسة، بل سياسة «تقليدية» بامتياز، «تقليدية» مع «مرقة تحديث» (وهذا حال كل التقليديين في الزمن الحديث، اساسا). أسر للمخيال الجمعي في «الاستعارة»، الاستعارة التي تحدث عنها كارل ماركس في «الثامن عشر من برومير» حين تحدّث عن اولئك الذين «يستعيرون من أرواح الماضي الاسماء والشعارات القتالية والأزياء».

بيد ان المشكلة كبرت كلما ابتعدت «ثورة الأرز» عن الحالة الجماهيرية حقاً أيام «انتفاضة الاستقلال». يومها كان من الممكن القول ان المقصود بالثورة في لبنان، هو على طريقة تلك البرتقالية في اوكرانيا، او ثورة الزهور في جيورجيا، اي ثورة ناعمة، تحدث لبضعة ايام، وتهوي بنظام تسلّط، بصرف النظر عما تستبدله به. لو اقتصر الأمر على ثورة بهذا المعنى لهان الأمر، وكان من الممكن الانصراف بعد ذلك الى بناء تحالف سياسي يحدد في كل مرحلة طبيعة تحديات ملموسة، سواء كانت سيادية بالملموس او تتعلق بظروف المعاش والحياة، بدلاً من تأجيل كل ملموس الى ما بعد حل المستعصي من الأمور.

ما حدث ان «ثورة الأرز» كخطاب، وكحالة جمعت مروحة من القوى والشخصية، أسرت نفسها في اشكالية ليست لها، اشكالية تنتمي لتاريخ الحركة الاشتراكية بالاحرى، هي اشكالية «اصلاح أم ثورة». منذ نهاية القرن التاسع عشر، انشطرت الاشتراكية الاوروبية بين القائلين بأن انهيار النظام الرأسمالي لم يعد مرجحاً، وان قدرته على التكيف واسعة، والانتاج يزداد تنوعاً، والتعويل هو بالتالي على الاصلاحات المتتابعة والمشاركة في الحكومات، وليس فقط البرلمانات، وبين قائلين، على الجبهة الاخرى، بأن حالة النظام الرأسمالي ستزداد عشوائية وتصدّعاً، والطابع الاجتماعي للانتاج السلعي سيزداد شمولية، وانه لا بد من التحضر للثورة كما كانت حرباً، ومن ثم، عندما اندلعت الحرب العالمية الاولى، صار مفهوم الثورة يقضي، خصوصاً عند لينين، بتحويل الحرب العالمية الى حرب اهلية ثورية ضد الطبقات الرجعية في كل بلد، وعلى هذا الاساس شقت الطريق الى ثورة اكتوبر، التي مرت ذكرى مئويتها قبل أيام.

طريف استحضار ثورة اكتوبر ونحن نتكلم عن «ثورة الارز». لكن هذا ما حصل عند الآذاريين بالفعل، اوقعوا أنفسهم في دوامة محاكاة جدلية «اصلاح أم ثورة» التي لا تعنيهم، بل هي جزء من تاريخ الحركة الاشتراكية. صار الهمّ الشاغل ضمنهم عدم الوقوع في «الاصلاحوية»، وخيانة «النهج الثوري». ضاقوا ذرعاً بتخوين الخصم لهم، في الوطنية، لكن التخوين انتشر بينهم، بخصوص «الثورية». اكثر من ذلك: الخطاب البلشفي ضد «اصلاحوية» الكسندر كرنسكي، متولي الحكومة المؤقتة في زمن ما بعد سقوط القيصر نقولا الثاني، جرت محاكاته ولبننته، وصار الهمّ البحث عن «كرنسكي لبناني»، لتفسير عدم الانتقال الى المرحلة الاكثر ثورية و«بلشفية» من ثورة الارز بتلكُّئه وإحجامه.

في مكان ما، هدر الآذاريون طاقات كثيرة، وخيارات عديدة، بل مجموعة من القيم، على محراب ثنائية ليست لهم، وليست للكيان اللبناني، هي «ثنائية اصلاح أم ثورة». وليس هذا «خارج عن الموضوعات الراهنة». ابداً. هي الخلفية لاستيعاب الاشكالات والتحديات الآنية. لا يمكن الاستمرار بنفس عدة الشغل غير القادرة على وقف تمدد وتغلب وتفرعن «حزب الله»، لكن، في نفس الوقت، لا يمكن ان «يتخيل» المرء نفسه «بلشفياً من 14 آذار»، ويفرز داخلها بين «اصلاحيين وثوريين»، الا اذا كان يريد الشيء العدمي، الذي يرهن نفسه بالتنجيم في الأحداث والحوادث، بدلاً من اعمال الحجة والدليل، والتحليل الملموس للواقع الملموس، والحفاظ على رباطة الجأش والأهواء الفرحة، والاعتبار.. الاعتبار اولاً الى انه اذا اردنا ان نقنع «حزب الله» بأن مفهوم «المقاومة» لا بدّ من التخفف، على الأقل، من «دائميته»، ومن مجاوزته للحدود اللبنانية، فان مفهوم «الثورة» الذي احتجز مكتسبات انتفاضة الاستقلال، لا بدّ من تجاوزه هو الآخر، لإعادة اكتشاف «حلاوة» الإصلاح، وروحية الإصلاح، ومشاريع الإصلاح، بالنسبة الى التركيبة اللبنانية.