عبد الخالق عبد الله

يتكرر صعود الأمم وهبوطها عبر التاريخ، وأحياناً الأمم التي تصعد صعوداً سريعاً تهبط أيضاً هبوطاً سريعاً واضطرارياً 
ومدوياً. وقطر التي كانت تتصرف حتى وقت قريب كقوة إقليمية صاعدة تجسد جميع عوارض الصعود السريع، ثم الهبوط الأسرع وفي شبه وقت قياسي.
ففي عام 2010 عندما كانت في عز صعودها الإقليمي، فاجأت قطر العالم بالفوز في تنظيم كأس العالم 2022 الذي هو أهم حدث رياضي عالمي. لكن عندما بدأ نجمها في الانحدار، وأخذ نفوذها الإقليمي يتراجع، لم تتمكن من الفوز بمنصب مدير عام منظمة اليونيسكو. شتان بين قطر قبل 7 سنوات حيث كان نفوذها وحضورها في صعود، وقطر مع نهاية 2017 التي تبدو منهكة ومقاطعة وفي هبوط مستمر.
ارتبط صعود قطر بكونها دولة غنية بثروتها من النفط والغاز الطبيعي. فوفق آخر التقديرات بلغ احتياطي قطر من الغاز الطبيعي 900 مليار قدم مربع، أي 15 في المائة من إجمالي الاحتياطي العالمي لتصبح ثالث أكبر دولة منتجة ومصدرة للغاز الطبيعي عالمياً بعد كل من روسيا وإيران. وتمكنت قطر خلال 10 سنوات فقط من تكوين فائض مالي يقدر بـ338 مليار دولار ليصبح صندوق قطر ضمن قائمة أكبر 10 صناديق سيادية في العالم عام 2016. كذلك وبحلول 2014 كانت قطر ثالث أكبر اقتصاد عربي بعد كل من السعودية والإمارات، بل إنه احتلت الترتيب الأول عالمياً في معدل دخل فرد المواطن القطري الذي بلغ 111963 دولاراً حالياً.
لقد وظفت قطر هذا الرصيد المالي لتحقيق انتشار سياسي إقليمي استثنائي خلال السنوات 1995 حتى 2011. لكن عليها الآن أن تتعايش مع ظروف تراجع أسعار الغاز الطبيعي من 8 دولارات قبل أربع سنوات إلى أقل من 3 دولارات عام 2017. هذا التراجع في سعر الغاز، علاوة على أعباء مالية غير متوقعة (زيادة فاتورة الإنفاق العسكري، وفاتورة الوجود العسكري التركي، وارتفاع فاتورة نفقات استضافة كأس العالم)، دفع لسحب 38,5 مليار دولار خلال صيف 2017، واضطرت لأول مرة منذ 20 سنة لطلب قرض بقيمة 9 مليارات دولار من البنوك العالمية لتغطية نفقاتها الحكومية.
لكن صعود قطر الذي ارتبط بمواردها المالية التي تراجعت الآن بعد أن كانت في يوم من الأيام لا حد ولا حدود لها، له علاقة مباشرة بالطموحات السياسية لأمير قطر السابق حمد بن خليفة الذي تسلم مقاليد الحكم عام 1996. 
لقد عاشت قطر لحظتها في التاريخ في ظل حكم الشيخ حمد الذي قرر في يونيو (حزيران) 2013 فجأة ومن دون مقدمات، ولأسباب غير معروفة حتى الآن التنحي طوعاً لابنه الشيخ تميم بن حمد البالغ من العمر 33 عاماً، والذي ذكر في مقابلة تلفزيونية مؤخراً أن جل طموحه كان يصبح بطلاً مشهوراً في التنس، وليس أميراً لدولة غنية. بعد تنحي الشيخ حمد بن خليفة لم تعد قطر كما كانت عليه.
ثم جاءت مقاطعة دول الرباعي العربي، السعودية والإمارات ومصر والبحرين، في يونيو 2017 التي أربكت قطر، وساهمت في تراجع نفوذها لتصبح لاعباً هامشياً بعد أن كانت تصول وتجول في عموم المنطقة. لقد اضطرت قطر إلى الانسحاب من غزة، ولم يعد لها حضور يذكر في الشأن السوري، وتعيش على هامش التطورات في ليبيا، وطلب منها الانسحاب كلياً ونهائياً من اليمن. 
في عام 2011 تمكنت قطر مع خمس دول عربية أخرى هي السعودية والإمارات ومصر والجزائر والمغرب من دخول قائمة القوى المتوسطة في العالم التي تضمن نحو 40 دولة تتمتع بالنفوذ الإقليمي والحضور الدولي. لكن مع ما تواجهه قطر حالياً من صعوبات مالية، وعزلة سياسية، وانكماش إقليمي، ومقاطعة من أربع دول عربية تمثل 40 في المائة من إجمالي سكان الوطن العربي، بدأت قطر رحلة الانكماش السياسي إلى وضعها الطبيعي كدولة نفطية صغيرة، وليس كقوة من القوى المتوسطة الصاعدة في العالم.
ما تبقى لقطر هو قناة الجزيرة المثيرة للجدل هي إحدى أهم أدوات قطر لممارسة النفوذ والتأثير على مدى الـ20 سنة الماضية. لقد فقدت القناة الكثير من بريقها، وانتهى عصرها الذهبي الذي بلغ ذروته خلال الربيع العربي. فقد كشف مسح للمشهد الإعلامي العربي أجرته مؤخراً جامعة «نورث وست» (NU - Q) ومقرها في الدوحة، عن حدوث تراجع ضخم في جماهيرية قناة الجزيرة في دول الربيع العربي، حيث بلغت نسبة مشاهدة القناة 4 في المائة فقط في البحرين، و9 في المائة في تونس، وأقل من 20 في المائة فقط في مصر.
تراجع جماهيرية ومصداقية الجزيرة هو ربما أبرز مؤشر على هبوط قطر وانكماش حضورها ونفوذها الإقليمي. هبوط قطر ليس بالهبوط الآني والمؤقت بل هو هبوط بنيوي ونهائي. فالمقاطعة الأخيرة، والفشل في اليونيسكو، والصعوبات المالية، والتشكيك الذي لا ينقطع في قدرتها على إقامة بطولة كأس العالم 2022، جميعها مؤشرات على أن الساعة دقت، وأن قطر تشهد حالياً هبوطاً ملموساً على كل المستويات.
لم ولن تنتهي قطر كدولة صغير وغنية ومنتجة للغاز الطبيعي وحاضنة لقناة إخبارية مشاكسة، لكن لم يبق الكثير من الإغراء والإغواء والتأثير والحضور الذي كانت عليه قطر قبل خمس سنوات فقط.