عبدالله محمد الشيبة
هي المدينة التي نشأ العرب بشكل عام والمسلمون بشكل خاص منذ فجر الإسلام على سماع اسمها مرتبطاً بفلسطين وبالعرب المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وشخصياً لم أقرأ في التاريخ عن مدينة تعرضت منذ تأسيسها لما تعرضت له مدينة القدس العربية عاصمة دولة فلسطين. فتلك المدينة التي تذكر المراجع التاريخية أن البشر استوطنوها منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، تعرضت للتدمير مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتمّ غزوها وفقدانها مجددًا 44 مرة. ولذلك من البديهي القول إن شعبها قد نشأ على الكفاح والجهاد والترابط لحمايتها والذود عنها.
تاريخيا، يعتبر «اليبوسيون»، أجداد العرب والمتفرعين من الكنعانيين، أول من استوطن القدس، حيث قام ملكهم ببناء «يبوس» أو القدس والتي أطلق عليها «مدينة سالم أو السلام: أور سالم. ولذلك فإن بني كنعان هم أول من استوطنوا«القدس» التي قدم إليها العرب الساميون في هجرتين كبيرتين: الأولى في بداية الألف الثالث قبل الميلاد والثانية في بداية الألف الثاني قبل الميلاد وظلت تحت حكمهم حتى عام 1000 قبل الميلاد عندما استطاع الملك والنبي داود -عليه السلام- احتلال المدينة، وهنا بدأت سلسلة طويلة من سيطرة العديد من الأجناس عليها.
فقد بدأ الحكم اليهودي للقدس والذي تلاه الحكم البابلي ثم الفارسي فالمقدوني والإغريقي ثم السلوقيين في سوريا ثم المكابيين فالرومان، والذي تم خلاله تغيير اسم المدينة لتكون
«مقاطعة سوريا الفلسطينية»باللاتينية تيمنًا بالفلسطينيين الذين سكنوا الساحل الجنوبي لبلاد كنعان. وقد شهد هذا العصر إعادة حقوق العبادة للمسيحيين في المدينة، والتي سلبها منهم اليهود واستطاع المسيحيون ممارسة شعائرهم الدينية بحرية دون اضطهاد من اليهود. ثم استطاع الفرس في عهد الإمبراطورية الساسانية، وبمعاونة من اليهود طرد الرومان من القدس واحتلالها، وذبح الآلاف من المسيحيين حسب بعض المراجع التاريخية إلا أن حكم الفرس للمدينة لم يدم سوى 15 عاماً، حيث عاد بعدها الروم للسيطرة على المدينة في عام 629م، واستمرت تحت سيطرتهم حتى الفتح الإسلامي لها في العام 636م. واستمر الحكم الإسلامي للمدينة حتى تفكك الدولة العباسية، فقام الأتراك السلاجقة بالسيطرة عليها ثم تلت ذلك الحملات الصليبية، التي أسفرت عن احتلال القدس حتى قيام صلاح الدين الأيوبي بتحريرها لتعود مرة أخرى بعد وفاته لقبضة الصليبيين حتى حررها العرب، ثم تعرضت لغزو التتار ثم حكم المماليك، فالحكم العثماني، ثم الإدارة المصرية فالعثمانية مرة أخرى، حتى عصر الانتداب البريطاني الذي سلمها للعصابات الصهيونية التي أعلنت الدولة اليهودية عام 1948. ذلك هو تاريخ المدينة المقدسة«القدس»، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين التي لا تلبث أن تسقط في براثن اليهود أو غيرهم من أجناس الأرض الطامعين في فرض الهيمنة على ممارسة الشعائر الدينية فيها بالقوة وذبح أهلها الضعفاء بمعاونة اليهود أيضاً حتى تعود إلى العرب عامة والمسلمين خاصة، الذين لم تعرف تحت حكمهم إلا التسامح والتعايش بين مختلف الأديان تحت مظلة الرحمة والتكافل التي ينشرها الدين الإسلامي.
تلك هي مدينة القدس التي أعتقد لو قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقراءة تاريخها لما قام بإصدار قرار لم يتجرأ من سبقوه من الرؤساء منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي على إصداره، وهو الاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي. وكان من المفترض ألا يسير ترامب عكس عجلة التاريخ، ويسكب المزيد من الكيروسين في منطقة مشتعلة منذ سبعة آلاف سنة ونيف. وكان عليه أن يتريث ويمنح العرب المسلمين منهم والمسيحيين بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص الوقت والفرصة ليصلوا لاتفاق سلام مع العدو الإسرائيلي المحتل، ويعيدوا لبيت المقدس اسمه الأصلي«مدينة سالم» ليعم السلام على أرض لم تنعم مطلقا به.
التعليقات