محمد المختار الفال

< أثبتت آثار التوجهات السياسية والأوضاع الاقتصادية والاضطرابات الأمنية في العقدين الأخيرين، أن «إشعال» الحرائق في جزء من هذه الكرة الأرضية وإبقاء أجزائها الأخرى تنعم بالرخاء والاستقرار فكرة «طوباوية» خاطئة تتجاهل سنّة التدافع التي تقوم عليها العلاقات بين المجموعات البشرية (بغض النظر عن تسميتها صراع الحضارات).

وما نشهده اليوم من تبدلات وتغيرات في الحياة السياسية الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي، وصعود التيار اليميني الداعي إلى الانكفاء على الذات ونبذ المختلف وطرد الوافد أو محاصرته في محيط مادي أو معنوي لتأكيد غربته وشذوذ وجوده، كلها يعود جزء منها إلى ارتدادات موجات العنف والاضطرابات في أجزاء من العالم، إذ دفعت الأحداث الأمنية والنزاعات العسكرية والصراعات السياسية ملايين الهاربين من أوطانهم إلى حيث يظنون إمكان توافر الأمن. ومنطقتنا أحد الشواهد الحية على هذا الواقع.

ولم يعد خافياً أن الغرب يمر بحال انقسام ملحوظة عكستها نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، كما عبر عنها البريطانيون في تصويتهم على خروج بلادهم من الوحدة الأوروبية وبروز أصوات أخرى تطالب بالعودة إلى حدود الدولة القطرية وتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية وتحركها لخلق «تيار» عام يوسع مجال تأثيرها وتعظيم فوائد ما تدعو إليه، لكن الغرب له ظروفه النابعة من تجربته الثقافية والسياسية والاجتماعية، التي ولدت آليات تصحح انحرافات مؤسساته وتعالج أخطاء مسيرته بعد أن أوجدت تجربته «مشتركات» من القيم والمبادئ بين شعوبه، ضحت قرونا عدة من أجلها، لتضع تلك «الضوابط» حية فاعلة قادرة على تجاوز المنعطفات الخطرة على مكتسباتها، فالقيم المشتركة بينها تدفعها لمقاومة أي سياسات أو توجهات تعرض مكاسبها للخطر أو تخصم من رصيدها في الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحرية التعبير (طبعاً داخل أوطانها)، ومما يساعد الشعوب الغربية في تجاوز الآثار السلبية لحال الانقسام وتقليل مخاطره مبدأ حرية التعبير ومناقشة الظواهر السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية بقدر كبير من الصراحة والوضوح ونقد الأفكار ومحاسبة السياسيين ونقد المشاريع الوطنية الكبرى والوقوف في وجه كل من يرتكب الأخطاء في حق القيم المشتركة الكبرى.

ولكن ماذا عن حال «التشظي» التي تجتاح المنطقة العربية في هذه الظروف العصيبة، وقد تضافرت عليها سيئات الانقسامات الدينية والانشقاقات الطائفية والتمزقات العرقية ومآسي التسلط والقهر ومرارة انعدام الحريات وفقدان حرية التعبير عن المشكلات الجوهرية ومناقشة أسبابها ودواعيها ومن يقف وراءها؟

الأزمة معقدة ويزيد من تشابكها وتداخل أسباب نشوئها أنها ليست من «جذر» واحد، فالمنطقة تتعرض للضغوط الخارجية كما تنهشها أمراض الهشاشة الداخلية و«العلل» الثقافية المزمنة التي زاد من تجذرها وغورها في النسيج الاجتماعي عدم مناقشتها وتعريضها للنقد وفحص مكوناتها وتحليل العوامل الثابتة والمتجددة فيها وتلمس ينابيع تغذيتها ومن يقف وراءها ومن له مصلحة في إبقاء «الدمامل» ملتهبة بقيحها ومكوناتها الكريهة.

الأزمة، كما قلت، معقدة، متشعبة تمتد في التاريخ، لكن أعتقد أن ما نشاهده اليوم من تجدد الأحقاد وإشعال نيران الكراهية بين الشعوب هو من ثمرات فشل الدولة الوطنية في إنتاج هياكل ومؤسسات مجتمع مدني ناضج قادر على استيعاب الجميع وتوليد قيم مشتركة أقرب إلى نفوس الجماهير مما تختزنه الذاكرة الجماعية من تباينات تاريخية يعيش على استمرارها فئات لا تختلف عن «أثرياء الحروب» الذين يوقدون مثيراتها ليغنموا من آلة تدميرها.

فشلت الدولة الوطنية «وارثة تركة الاستعمار» في أن تقود المجتمعات إلى ما يخلصها من انتماءاتها القديمة، المشيخة والقبيلة والجهة، ولم تنجح في تجديد طاقاتها من خلال هياكل تربط مصالح الفرد بمحيط تخصصه وتحرره من الولاءات الضيقة وتفتح أمامه ميدان الفرص المتساوية. ونظرة على التجربة الحزبية في «الجمهوريات» العربية ومقارنتها بما هي عليه في المجتمعات الغربية تكشف «توقف نمو» الأنظمة السياسية العربية الطبيعي في اتجاه تحرير الشعوب من «إسار التاريخ» المحتفظ بالولاءات الضيقة، فالأحزاب في المجتمعات المتحضرة تتنافس على رضا المجتمع وتعمل على تحسين مستوى حياة الناس، تركز نشاطها على تحقيق وعودها الانتخابية حتى تظل في الصورة، تمثل منابر لتعدد الرأي واختلاف وجهات النظر لكنها كلها تتحرك في إطار مصلحة وخدمة أنصارها في إطار القيم العامة في أوطانها فما هي حال الأحزاب في هذه المنطقة من العالم؟ ماذا أنجزت الأحزاب العربية لأوطانها؟ وماذا صنعت من تراث فكري وتطور سياسي وتقاليد محترمة؟ الحصيلة محزنة ومخجلة، فهذه الأحزاب تحولت إلى كيانات مشوهة اختصرت صورتها في شخصية «الزعيم» الذي يسوق الأتباع كالأغنام ويجر المؤيدين والأنصار كالخراف، يتاجر بهم في بورصة الفساد السياسي، يحالف ويخاصم، يوالي ويعارض بحسب «موسم الحصاد»، فإذا كانت الموالاة أكثر نفعاً تقدم الصفوف، وإذا كانت «مكافأة» المعارضة أثقل وزناً تراجع إلى الخلف محتجاً على «الفساد» رافعاً عقيرته، وإذا تعاظمت «الفاتورة» خرج على الإجماع الوطني والتحق بركب «الممول» الخارجي وخلع ثوب السياسي المحاور المجادل وارتدى بدلة «الميليشياوي» الذي ينفذ تعليمات الذين صنعوه أو كبروه أو فخموه.

واليوم، على الساحة العربية أحزاب «ممسوخة» تحولت من العمل العام إلى «مؤسسات خاصة» تقدم خدمات القتل والدمار لمن يدفع أو يتعهد بالشراكة في الغنائم. نظرة على الخريطة العربية تكشف حجم الكارثة وفساد بيئة الحزبيين، فهي موزعة ما بين انقلابيين رفعوا لافتات الحوار حتى إذا انخدع الخصوم وتراخت قبضاتهم انقضوا عليهم بالسلاح وبين عسكريين ومقاتلين يتحدون سلطة الدولة وخارجين على القانون ومرتزقة يبيعون أرواحهم لمن يدفع أكثر، هذه «الأحزاب» ترجمة حقيقية لفساد السياسة العربية بعد أن تحولت إلى «ميليشيا» طائفية تمزق خرائط الأوطان وتستبيح أعراض ودماء مواطنيه وترفع لافتات وشعارات طائفية توغر الصدور وتستفز المشاعر وتحيي الأحقاد الميتة وتثير الإحن والبغضاء.

والسؤال: إذا كانت المجتمعات الغربية تستقي من تجاربها وقيمها المشتركة ما يساعدها في تجاوز أو تقليل مخاطر مرحلة الانقسام التي تمر بها في هذه الفترة، فهل تملك المجتمعات العربية ما يعينها على تنقية تجربتها من أسباب الفرقة واستثمار قوة القواسم المشتركة؟ وما هو دور النخب السياسية وقادة الرأي في استعادة «رشد» العقل العربي وتخليص الحياة السياسية من انحرافات أفسدت ثقافة الأمة وشوهت صورتها في عيون أهلها وغذت كراهية المختلف؟