إياد أبو شقرا

من أظرف مقولات مارك تواين «الله اخترع الحرب كي يتعلّم الأميركيون الجغرافيا»... أما نحن العرب، على الرغم من شغفنا بالأنساب وانغماسنا في العشائرية، ما زلنا لا نجيد قراءة الأنثروبولوجيا!
رسالة مارك تواين واضحة.


إذ يوجد في الولايات المتحدة المنعمة القوية من الموارد والإمكانيات ما كان يغني الفرد الأميركي العادي عن الاكتراث بما يحصل عبر المحيطين الأطلسي والهادئ. ومع أن الأمة الأميركية أمّة من المهاجرين، دخل هؤلاء في مسارات تأقلم في وطنهم الجديد تفاوتت معها درجة ذوبانهم، وكان القديمو الهجرة، ومعظمهم من مسيحيي أوروبا الغربية والشمالية – البيض طبعًا – أسرع تأقلمًا وذوبانًا من الأجيال المتأخرة، التي جاءت من أماكن متباعدة وثقافات وديانات متنوعة، وحافظت إلى حد بعيد على تراثها وعاداتها.
انتخاب دونالد ترمب يمكن قراءته، ولو جزئيًا، بوصفه ردة فعل على مؤشر تصاعد أهمية الأقليات من غير البيض أو غير الأوروبيين أو غير المسيحيين، وتنامي ثقلهم السكاني... وهو ما تجسّد في خريف 2008 بانتخاب أول رئيس من أصل أفريقي – مسلم. وهكذا، حسمت انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 الأرياف البيضاء في ثلاث ولايات هي بنسلفانيا وميشيغن وويسكونسن، حيث يوجد حضور قديم للهولنديين والألمان والإسكندينافيين وغيرهم من الأوروبيين الغربيين والشماليين. والقصد هو أن الأميركي المتحدّر من أصول أوروبية مسيحية بيضاء بات يشعر بأنه مهدد بالتهميش ديموغرافيًا من داخل البلاد، واقتصاديًا من خارجها، ومن ثم، صار لزامًا عليه أن ينتفض دفاعًا عن وجوده... الذي قال له عُتاة اليمين إنه «مهدّد».
الشرق الأوسط أقدم عهدًا مع التنوع والاختلاف من الولايات المتحدة. فهو في قلب «العالم القديم»، وفيه تقاطعت الطرق التجارية منذ فجر التاريخ، وعلى أرضه سادت ثم بادت حضارات عظيمة. وهذا، يعني أن «الوعاء الأنثروبولوجي» للمنطقة استوعب قدرًا كبيرًا من التنوّع والتفاعل والتراكم منذ آلاف السنين.
ليس هذا فحسب، بل أسهم وجود الشرق الأوسط في قلب «العالم القديم» بأن يتأثر بكبريات الحضارات والممالك التي سيطرت على حوض البحر المتوسط، وأنتجت هجرات وحروبًا واستيطانات كثيرة.. منها ما اندثر ومنها ما بقي، ولو بمسميات مختلفة. كذلك، وقعت مناطق مختلفة منه تحت حكم قوى متعددة؛ ما ترك بَصمات متمايزة في ثقافاتها المحلية، وخلق ولاءات، منها العرقي ومنها اللغوي، ومنها الجِهَوي (الإقليمي)... ومنها، بطبيعة الحال، الديني والمذهبي.
علينا أن نعي هذا الواقع كما هو على حقيقته، لا كما نتخيله أو نودّ أن يكون، وخصوصًا، في خضم الحروب الأهلية والإقليمية، ومشاريع الهيمنة والإلغاء التي تتزيّا تارة بزي الدين، وطورًا بزي انتفاضات عرقية على طمسها أو مصادرتها، ومرة ثالثة بتصحيح «خطأ» تاريخي بحق جماعة من الجماعات.
ولنراجع في ما يلي بعض المحطات...
في اعتقادي، ما كان بمقدور العرب عام 2003 أن يمنعوا تقسيم العراق رسميًا بعد الغزو الأميركي. غير أن حسابات واشنطن ومعها لندن أخذت في الاعتبار ما يعنيه إثارة غضب تركيا وإسالة لعاب إيران أمام «الفريسة» العراقية.
يومذاك، وإن كان مقبولاً تسليم أتباع إيران السلطة الفعلية في بغداد بعد انتزاعها من سنّة «الفرات الأوسط» – «عماد» الدولة العراقية منذ 1920– كان السماح للأكراد إعلان دولتهم المستقلة مجازفة خطيرة. وذلك لأن تركيا كانت ضد: أولاً، قيام دولة كردية مستقلة متصلة بمناطق أكرادها. وثانيًا، تحوّل التركمان في شمال العراق إلى مواطنين من الدرجة الثانية داخل الكيان الكردي المستقل.
حاليًا، الأكراد ماضون صراحة في سبيلهم نحو تأسيس كردستان المستقلة. غير أن «الحساسيات» العراقية وأبعادها الإقليمية تظل شديدة في ظل التنوّع العرقي والديني والمذهبي واللغوي، الذي تعبر عنه خير تعبير «فسيفساء» محافظة نينوى، وهي غاية في التعقيد، للأسباب التالية:
بداية، أنجز «الحشد الشعبي» – الميليشيا الشيعية التابعة لطهران – تهميش السنّة العرب بموافقة دولية، ولا سيما، بعد تحميلهم تبعات التواطؤ مع الإرهاب الداعشي واحتضانه. وثانيًا، يواجه «المشروع الاستقلالي» الكردي، بعدما اقترب من الإنجاز، خطر تمدّد «الحشد» (أي إيران) شمالاً بحجة «تحرير» الموصل وتلعفر، ناهيك من تحفظ أنقرة عنه. وثالثًا، ثمة وضعية كركوك ذات التشكيل السكاني التركماني – الكردي – العربي التي كانت وما زالت موضع جدل، والتي تعد نموذجًا لإخفاق المعالجات الكيدية والإلغائية، التي صارت سمة السياسة العراقية منذ 2003.
في سوريا ولبنان، الحال ليس أقل سوءًا. وخطوط «التقسيم» ارتسمت جلية خلال السنوات الخمس الماضية، إن لم يكن رسميًا، فنفسيًا وواقعيًا. وهنا ينبغي الذهاب أبعد من المسميات السطحية التي تروّج إعلاميًا؛ لأنها لا تعكس إلا جزءًا من الواقع.
ما يحدث في سوريا – واستطرادًا، ما له من تداعيات في لبنان – عبارة عن تسابق ليس فقط للسيطرة على مدينة صغيرة اسمها الباب في محافظة حلب. إنه تسابق على السيطرة على سوريا، بل غرب الهلال الخصيب بأسره. والقضية في سوريا ليست «مناطق آمنة» (تركمانية – عربية) هنا أو «سوريا مفيدة» هناك، ولا «داعشستان» في الشرق، وروج آفا (كردية تهمّش السريان والآشوريين وعرب الرقّة) في شمالها الشرقي. إنها إعادة تحديد مستقبل البلاد... بل الهلال الخصيب كله، بكل مكوّناته، الباقية منها، حيث هي أم المهجّرة إلى الدول المجاورة، والأبعد منها.
لئن كانت إيران تطمع اليوم لمد نفوذها تحت الألوية الدينية والمذهبية من العراق إلى البحر المتوسط عبر سوريا ولبنان، معتمدة على الأقليات الشيعية الموجودة، بجانب زرعها جاليات شيعية عراقية وإيرانية وأفغانية في البلدين، فلروسيا حسابات أخرى تتصل بالمسيحيين والعلويين غير المتحمّسين للتشيّع الجعفري وولاية الفقيه.
وأيضًا لأميركا حسابات مع الحالة الكردية، سواءً في سياق تصوّر أدوار لتركيا وإيران أم لا.
ثم هناك إسرائيل؛ إذ لإسرائيل كذلك اهتمامات وقراءات في مصائر المكوّنات البشرية للمنطقة، وبالأخص ما يمكن أن يخدم مشاريعها لـ«الترانسفير» وخلق كيانات طائفية محميّة من الخارج.
... ألم أقل أن علينا القراءة في كتب الأنثروبولوجيا من جديد..