محمد الرميحي
ثلاثة متغيرات تحدث حولنا سوف يكون لها تأثير بالغ على أوضاع الشرق الأوسط في القادم القريب، تختلف عما تم حتى الآن، على الأقل منذ بداية العقد الحالي؛ الأول هو هزيمة «داعش» وانتهاء سيطرته على الأرض، ولا أقول اختفاؤه، وتأثير ذلك على الوضع العراقي،
والثاني الأحداث الداخلية في إيران، وأما الثالث فهو مستقبل العلاقة الأميركية الروسية. ثلاثة متغيرات تفاعلها مع بعضها سوف يقرر مسيرة الأحداث. «داعش» قريب إلى الانهيار كقوة لها مرتكزات على الأرض، ومن قام بحربه ولا يزال هو تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، ولا تستطيع الحكومة الإيرانية أن تقنع العقلاء بأنها قامت بذلك، ولا حتى الحكومة العراقية، «داعش» في طريقه إلى الهزيمة لأنه خارج العصر، ما بعده يحتاج إلى عمل سياسي منظم لامتصاص غضب «الحواضن» التي أنتجت «داعش»، وهو أمر له علاقة بمستقبل كل من العراق وسوريا. ما بعد «داعش» لن يكون كما قبله. سوف يرى العراقيون أن التدخل الإيراني قد بلغ مداه في شؤونهم، وأن من يتبع طهران من ساستهم لا يخرج عن اثنين؛ إما مغلوب على أمره مرتهن أو انتهازي، وهو فهم قد يتحول العراقيون معه من كراهية ناعمة «الآن» لإيران إلى كراهية خشنة في المستقبل. فالعراقي غير قابل أن يحكم حتى من خلال قوة الإغواء المذهبية التي مارستها إيران حتى الآن، وهو إغواء هش، لأنه لا يحمل أي محتوى حضاري أو حديث، ويتجاهل توق العراقيين إلى الحرية، كما لا تمثل التجربة الإيرانية أي مغريات تقنع الجمهور العراقي العام بحداثة الدولة وعصريتها، ما شهدناه من مظاهرات كبيرة قرب أسوار المنطقة الخضراء في بغداد والذي تكرر أكثر من مرة هو «بروفة» سوف يتصاعد مدها مع انحسار «داعش» ومع موعد الانتخابات العامة في العراق، والتي سوف يدار بعضها تحت شعار «أيها الإيرانيون عليكم بالرحيل». في غياب «داعش» سوف تظهر الاستحقاقات الملحة للشعب العراقي، وهي التوق إلى حياة اقتصادية ونظام سياسي حديث يلبي حاجات العراقيين، وعلى رأسها طبعاً أن يعيشوا في دولة ذات سيادة كاملة. من هذا المنطلق يجب أن تقرأ زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بغداد قبل أسبوعين. التناقض يبدو في مكان آخر، وهو أن تعتقد طهران أنها تحكم العراق، في وقت فيه بيّن العراق والولايات المتحدة، كما قال الناطق باسم الخارجية العراقية، شراكة تحالف، بقبول إيران الضمني بتلك الشراكة تسقط تلقائياً شعارات «الموت لأميركا» التي تضلل بها العامة!
على منعطف آخر يبدو أن معركة وراثة «الفقيه» في إيران قد بدأت في الخلفية السياسية الإيرانية، فالاستحقاق القادم في طهران ليس فقط انتخاب رئيس جمهورية، وما يعنيه من اندلاع صراع بين القوى المتنازعة على السلطة، بل على من هو الخليفة المحتمل للولي الفقيه السيد علي خامنئي، وقد خلا مقعد «الثعلب» الراحل هاشمي رفسنجاني الذي كان حاذقاً في ربط الأذيال بعضها ببعض، وكانت قمته عندما اقترح وحقق عند الانتقال من الخميني إلى خامنئي، حذف شرط أن يكون القائد بالضرورة هو أعلى مرتبة فقهية وصاحب مرجعية، لتمكين علي خامنئي من الوصول إلى الولاية، يكفي نضاله السياسي ضد «الاستكبار»!، كما قال وقتها السيد رفسنجاني! وهكذا حقق رفسنجاني وصول السيد علي خامنئي إلى القمة، وكان يعتقد أنه ملك القرار من وراء الستار، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، تلك هي السياسة، وهي تعود من جديد اليوم على خلفية صراع «وراثة المرشد» التي شكل لها لجنة سرية من عشرة أشخاص تعرف بلجنة 107، هي الرهط الحكيم لاختيار خليفة للمرشد، لا سمح الله، إن قدر أن يأخذ أمانته! هذا الصراع يظهر للعلن، ولكنه في نفس الوقت ينفي الحديث عن «جمهورية» إيرانية! فالجمهورية في أبسط قواعدها السياسية هي انتخاب «الجمهور العام» لرئيسهم، وليس الرهط الحكيم العشرة في لجنة 107 السري هو الذي يفعل ذلك، إذا أخذنا بالصلاحيات المطلقة للمرشد وغير المسبوقة لأي رئيس، فإننا نصل إلى حكم أقرب إلى أن يكون ثيوقراطياً بكامل أوجهه، وذلك يظهر على المحك للأجيال الشابة الإيرانية أنهم يعيشون في دولة يمكن أن تسمى أي شيء إلا أن تكون جمهورية، إضافة إلى ذلك ما صرح به السيد محمد جواد ظريف الأسبوع الماضي، بأن الملف السوري ليس بيده ولا بيد رئيس الجمهورية، هو بيد «لجنة الأمن القومي» وترجمتها «مكتب المرشد»، هذا الاختلال البنيوي في النظام الإيراني بقي على حاله حتى الساعة، إلا أن الأمور السياسية كغيرها تصل إلى خواتيمها، فلا بد للصراع في سوريا من نهاية، ولا بد لـ«داعش» من نهاية وكذلك للحوثيين، فإيران أصبحت جزءاً من المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءاً من الحل، الروس هم من سيفرض الحل! وسوف يخرج في إيران من يسأل لماذا صرفنا كل تلك الأموال على حروب عبثية، لم تستفد منها الشعوب الإيرانية غير تقديم الضحايا وصرف الطاقات وتبديد الأموال. لا القوة الصلبة ولا القوى الناعمة الإيرانية قد حققت حتى الآن وبعد طول زمن أي استقرار للنفوذ الإيراني، فالعراقيون يقاومون والسوريون يقاومون وكذلك اليمنيون، ويوضع شباب «حزب الله» في سوريا في مقدمة فوهة الصراع ومن خلفهم كتائب سليماني، تعزيزاً لفكرة أن الدم العربي أرخص كثيراً من الدم الإيراني! وتُمنى شوكات الحرس الثوري وعملائه في أماكن أخرى من بلاد العرب بالانتكاسة تلو الأخرى باكتشاف جماعات التخريب.
على الجانب الثالث، في العلاقات الأميركية الروسية يبدو العالم اليوم وكأنه «عالم بلا سيد»، هناك تحولات غامضة في تلك العلاقة، ما زالت ملفاتها مفتوحة في ساحة الصراع في واشنطن، أما الرسائل القادمة من هناك فهي أكثر غموضاً، ففي الوقت الذي يقترح فيه تخصيص مليارات الدولارات من أجل تعضيد القوة الصلبة الأميركية، يتحدث نفس الساسة عن انغلاق وتقوقع داخلي! وهي إشارات متناقضة، في الوقت الذي تُعلى فيه مصالح وميكانيكيات «السوق» من خلال تمويل من يرغب في الدفاع عنه! إلى إعلاء ميكانيكيات السياسة وتعظيم قوة الدبلوماسية. حتى بعد حلول تقريباً ستين يوماً من تسلم الرئيس الجديد سدة البيت الأبيض، ما زال هناك غموض غير بناء في العلاقات بين الدولتين الكبريين، الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وهما الأكثر تأثيراً على مسرح الشرق الأوسط بوجودهما الفعلي على الأرض! الصراع على النفوذ في المنطقة بين القوتين، وهو شكل من أشكال القوة، سوف يظهر قريباً تناقضه، والطرف الروسي يتحسب لذلك اليوم بمحاولة إسراع حسم الملف السوري، قبل إفاقة الفريق الجديد في البيت الأبيض من موجات التشويش الهائلة التي تضرب الإدارة.
أمام هذه الثلاثية التي تؤثر بقوة في الساحة السياسية في الشرق الأوسط، تبرز قوة الإقناع الصادرة من دول الخليج تقودها المملكة العربية السعودية، التي تمثل اليوم ما يمكن أن يُوصف بانتقال مراكز القوة، على قاعدة التنمية والاستقرار، ففي جولة العاهل السعودي في شرق آسيا تتضح معالم قوة الإقناع، كما زيارة الجبير إلى بغداد، كمثل التهدئة في لبنان. وكمثل زيارة محمد بن زايد إلى الصين، قوة الإقناع هي مضادة لقوة الإغواء التي استهلكت نفسها.. قوة الإقناع هي استخدام وتوظيف القوة الناعمة المعتمدة على القيم التي توافق عليها العالم، والالتزام الإيجابي بها وعدم التدخل في شؤون الغير، وتحفيز العمل الجماعي من خلال المؤسسات الدولية، والحرص على الكفاءات الوطنية والتركيز على الأنشطة الإنسانية، كل ذلك هو أساس ضمان الاستقرار والتنمية التي تخدم الشعوب. فأمامنا اليوم قوة إغواء تتلاشى وتفشل في كل الملفات التي تصدت لها، وقوة إقناع صاعدة تضرب المثل في نجاح التنمية وتنجح في حل مشكلات يفرضها تقاطع حاجات الدولة ومطالب التحديث.
آخر الكلام:
اللحظة الخليجية هي التي يمكن أن يوصف بها القادم من التفاعلات الإقليمية والدولية، وهي تتصف بانتصار العقل والحفاظ على الأمن والتنمية ومتابعة حقيقية للإصلاح الإداري والاقتصادي والتعليمي استعداداً لمواجهة المخاطر المحتملة.. .
التعليقات