غسان شربل
لا يكفي أن نحب بلداننا. يجب أن نتعلم كيف نحبها. بعض الحب الناقص أو المتهور يسيء إلى طرفيه. وليس سراً أن العرب يقفون على مفترق طرق. وأن عليهم أن يتخذوا قرارهم سريعاً. وأن يبلوروا خيارهم داخل القرية الكونية التي تعيش على وقع ثورات تكنولوجية متلاحقة. إما الالتحاق بركب الذاهبين إلى المستقبل وإما متابعة السفر إلى الماضي.
والمهمة المطروحة على العرب كبيرة وشائكة. إنها مهمة لا تقل عن استرجاع بلدانهم. بلدانهم التي أفلتت من بين أصابعهم أو تكاد. والمقصود استرجاع هذه البلدان وحجز موقع لها في قطار التقدم. لا نملك ترف الانتظار أكثر مما فعلنا. لا بد من استعادة بلداننا. من انتهاكات الخارج وانتهاكات الداخل. من استباحات الخارج واستباحات الداخل. لا بد من استرجاعها من غفوتها الطويلة وقيلولتها المديدة.
تنتهك الأوطان مرتين. الأولى حين يستبيحها المقاتلون الجوالون أو جيوش أجنبية، أو يصادر قرارها. والثانية حين يضطهد المواطن أو تهمش مجموعات أو مناطق. كرامة الأوطان لا تنفصل عن كرامة المواطنين. وكرامة المواطن تعني ليس فقط احترام حقوقه في الحرية والعمل والتعليم، بل أيضاً فتح بوابات الأمل أمام أولاده وأحفاده.
لا تصان كرامة الوطن والمواطن إلا في عهدة دولة. وفي ظل حكم القانون. ووجود مؤسسات تستمع وتستشعر وتقرر. وهيئات تراقب وتحاسب. كل عيش بلا دولة تستحق التسمية يشبه السير على حبل مشدود. خطر السقوط شديد الاحتمال.
والأخطار على البلدان لا تأتي دائماً من الخارج. من المقاتلين الجوالين وشراهة الدول الراغبة في تغيير ملامح جيرانها. يأتي الخطر أيضاً من الداخل. من شبان يقاسمون المقاتلين الجوالين أفكارهم المعتمة. ويأتي أيضاً من اليأس. والفشل العام. والشعور بانسداد الآفاق. والترهل. والضياع.
لا حل إلا بالدولة. أقصد الدولة التي تستحق التسمية. دولة القانون والمؤسسات. دولة طبيعية وعادية. تتعاطى الأرقام لا الأوهام. تؤتمن على الحاضر وتخطط للمستقبل. تخطئ وتصحح. تعدّل وتتكيف. الدولة المطمئنة هي الدولة العادية. دولة تحفظ الأمن بقوة القانون. وتنشغل فعلا بأرقام الميزانية. والميزان التجاري. ومعدل النمو. ونسبة البطالة. وعلاقة المعاهد بسوق العمل.
أخبرني مدير مكتب صدام حسين أن السيد الرئيس كان يعتبر الحكام الغربيين عاجزين لأنهم لم يفوزوا بـ99 في المائة من الأصوات ولأنهم يغادرون على دوي عناوين الصحف. انظر عزيزي القارئ إلى العراق. وأخبرني ظل القذافي أنه كان يحتقر الزعماء الغربيين الذين يتساقطون كأوراق الخريف ويبقى هو ممسكا بالمصائر. انظر عزيزي القارئ إلى ليبيا. يا للهول. لم يدرك الرجلان، وأحيانا من انتصروا عليهما، أن السر يكمن في بناء الدولة والمؤسسات والتراكم والاستمرار ومحاولات التقدم لحماية الاستقرار.
لنذهب إلى المباشر. يدفع العراقيون دماً لاستعادة الموصل من وحشية «داعش». لكن منع قيام موصل جديدة وطبعة ثانية من البغدادي يبقى مرهونا باستعادة العراق بأسره. استعادته ووضع مصيره في يد العراقيين وحدهم وفي ظل دولة قانون تتسع لكل مكوناته. لا يحق للخارج أن يملي على العراقيين شكل حكومتهم. لكن من حق العربي أن يحلم بعودة العراق دولة عربية طبيعية مستقرة تتعايش فيها القوميات والمذاهب تحت حكم القانون وحلم الازدهار. عراق لا يشكل مصدر خطر لا على نفسه ولا على جيرانه.
لا تكفي استعادة تدمر من «داعش». لا بد من استعادة سوريا من غابة الأعلام التي وفدت إليها وأدمتها. استعادتها لوضعها في عهدة السوريين وحدهم الذين يعود لهم أن يقرروا شؤون بلدهم. وأن يعيشوا في ظل القانون والمؤسسات التي تتسع للمكونات والأجيال وورشة إعادة الإعمار والتطلع إلى الازدهار. ولا أعتقد أن العربي يطالب سوريا بغير ذلك أو يحلم لها بغير ذلك. يمكن قول الشيء نفسه عن ليبيا واليمن والصومال. الدولة جواز سفر إلى المستقبل. الميليشيات أقرب الطرق إلى الماضي. لقطار الفوضى الدامية محطة وحيدة هي الهاوية.
على اللبنانيين أيضاً استرجاع بلدهم. لا يجوز أن يبدو لبنان وكأنه محطة مسافرين يتقاتلون أمام كل استحقاق وينسون شؤون التنمية. يستحق لبنان أفضل مما هو قائم. يستحق العيش في ظل حكم القانون وفي عهدة دولة جدية وعصرية وبلا وصايات من الخارج أو الداخل.
لا بد من استرجاع بلداننا. يجب أن نتذكر أن الاتحاد السوفياتي لم يقتل في مواجهة مع الأطلسي. قتله الجمود والنوافذ المغلقة بإحكام وتزييف نتائج الخطط الخمسية وشراهة الإمساك بما وراء الحدود والإنفاق على تحريك البيادق.
الجمود عدو قاتل. والفشل عبوة ناسفة هائلة. وتحويل الانتظار إلى استراتيجية دائمة محفوف بالأخطار. لا بد من استعادة بلداننا إلى حلم التقدم. لا بد من دولة طبيعية. ومدرسة طبيعية وحكومة تتعاطى الأرقام لا الأوهام. لا بد من إيقاظ رغبة التقدم واستقطاب دم الشباب الحار وإشراكه في معركة التنمية. لا تنام سنغافورة على ثروات طبيعية. ولم تنطلق اليابان من ثروة نفطية تعادل ثروة العراق. المعرفة هي الثروة الجديدة. مخاطر السباحة في النهر أقل بكثير من مخاطر الإقامة الدائمة على الضفة.
إنها ساعة استرجاع بلداننا إلى معركة العمل والأمل والتقدم. لا تقرع بوابات المستقبل بالمواويل والمناديل.. . . .
التعليقات