فهمي هويدي
حين كان في مصر مجلس حقيقي للنواب، فإنه عقد جلسة يوم ١٠ أغسطس عام ١٩٢٦ لمناقشة ميزانية الدولة لعام ١٩٢٥. ولاحظ النائب الوفدى فخري عبد النور أن الحكومة رفعت راتب رئيس محكمة الاسئتناف مائتي جنيه سنويا بصفة شخصية، فوصل الراتب إلى ٢٤٠٠ في السنة، وفعلت ذلك بالنسبة لأحد المستشارين، حينئذ تحفظ النائب عبدالنور معتبرا أن ذلك يعد افتئاتا على استقلال القضاء. وطلب حذف الزيادة صونا لذلك الاستقلال، دافعت الحكومة على الزيادة باعتبار أن المرتبات كانت قد خفضت رسميا وأن البعض نقل من وظيفة ذات راتب أعلى فاحتفظ براتبه السابق.
ومع ذلك لم يقتنع الأستاذ فخري ونقل المسألة إلى المناقشة العامة باعتبار أنها تتعلق باستقلال القضاء، وأنه لا يجوز منح أية زيادة شخصية للقاضى.
كان سعد زغلول هو رئيس مجلس النواب «المجلس الحقيقى كان له رئيس حقيقى»، فعلق على الموضوع قائلا: رغم أن المبالغ المراد حذفها ليست مهمة في ذاتها، إلا أنها تكتسب أهمية قصوى لأنها تتعلق باستقلال القضاء، وذلك الاستقلال لن يتحقق إلا إذا لم تتدخل فيه السلطة التنفيذية. أو كان تدخلا قليلا جدا. ثم أضاف أن نظام القضاء فى مصر يساعد السلطة التنفيذية على أن تدخل بطرق شتى مشروعة، وذلك أمر يؤسف له، ولكنها تتدخل أيضا بصفة غير مشروعة، بل بصفة تكاد تكون بمثابة رشوة للقضاة. وهذا ما لا يجوز أبدا، ويجب على حضراتكم بصفتكم أن تضربوا على كل يد تمتد إلى هذا الاستقلال «تصفيق حاد». ثم قال: لا يجوز مطلقا أن يمتاز قاض عن زميل له بجانبه إلا إذا كان ذلك يحكم الزمن والقدم.
وبعد أن استمع إلى مداخلات النواب ختم المناقشة قائلا: سمعت من كثيرين دفاعا عن القضاء، كما سمعت بغاية السرور دفاعا عنه من معالى وزير الحقانية «العدل» .. وإنى أتشرف أيضا بالدفاع عن القضاء، وأرانى حائرا لهذا الشرف بمنع تدخل الحكومة في استقلال القضاء بهذه الطريقة المعيبة، وبعد كلمته قرر المجلس حذف العلاوات الشخصية المذكورة.
القصة السابقة أوردها المستشار طارق البشرى فى كتابه عن «القضاء المصرى»، ثم روى قصة شخصية عن أبيه المستشار عبد الفتاح البشرى الذى كان رئيسا لإحدى دوائر الجنايات بمحكمة الاستئناف بالقاهرة، وقد عايشها وهو لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، إذ حدث أن تم اغتيال المستشار أحمد الخازندار، وكان على دائرة المستشار الأب أن تنظر القضية وذكر المستشار طارق أنه سمع أباه وهو يتداول هاتفيا مع زملائه المستشارين للاتفاق على رفض عرض الحكومة. ومما قاله الأب لزملائه، كيف نقرر لهم سيارة دون أن تعمم على كل مستشارى المحكمة، وهل أنهم هم أولى من أمن غيرهم؟ وكيف يسوغ أن يرى المتقاضون قاضيهم وهو ينزل من السيارة المحروسة أمام المحكمة؟ وإن ظنوا بحق أنه خائف فكيف يطمئنون إلى قاضيهم وإلى حيرتهم وهم يرونه خائفا؟ ثم قال: إن شرعية القاضى عند الخصوم الماثلين أمامه راجعة إلى أنهم يطمئنون إلى حيدته، وإنه سيان عنده حسبما يظهر له أنه الحق الحكم ضد هذا أو ضد ذاك، فهل يطمئنون وهم يرونه خائفا ومحروسا.
لم يكن لدينا برلمان حقيقي فقط، ولكن قضاة حقيقيون.
التعليقات