عبدالله ناصر العتيبي
< الولايات المتحدة الأميركية ليست من دول العالم الثالث، يستطيع رئيسها أن يخاطب شعبه في الداخل بلغة ويتحدث مع العالم الخارجي بلغة أخرى مناقضة. هي ليست دولة هامشية لا يعرف العالم ما يدور فيها من رسائل بين الحاكم وشعبه، التي قد تتناقض وتناقض رسائل حاكمها إلى نظرائه في العالم.
أميركا تتوجه إليها كل كاميرات العالم على مدار الساعة، وتنقل منها مباشرة إلى الكرة الأرضية كل ما يدور فيها من أحداث، وبالتالي فكل رسالة تخرج من فم الرئيس، تذهب مباشرة في طريقين متوازيين: الداخل الأميركي ودول العالم، عليه فلا بد دائماً أن تتناغم أحاديث مسؤوليها وتنفيذييها مع ما يريده المواطن الأميركي وما يتوقعه المواطن العالمي.
طوال العقود الماضية، كان يعرف الساسة الأميركيون هذه الحقيقة، وكانوا يدركون أنهم ليسوا أمناء على أميركا فقط، وإنما لهم يد طويلة تمتد حول خصر العالم! أحياناً من أجل احتضانه ودعمه، وأحايين أخر من أجل تقييده وربطه مباشرة بالمصالح الأميركية.
كل الرؤساء الأميركيين السابقين يعرفون هذه الخصوصية الأميركية، وحده ترامب الذي لا يعرف ذلك.
خلال حملته الانتخابية، قال مرشح الرئاسة ترامب أن على دول الخليج - ومن بينها السعودية - أن تدفع ثمن الحماية الأميركية لها. وراح يفصّل ويشرّح في هذا المطلب في أكثر من مناسبة. يقول الجملة المتعلقة بحماية دول الخليج من هنا، وتتطاير الكلمات من حناجر مؤيديه من هنا وهناك ومن كل تجمع حاشد له في مختلف الولايات الأميركية. كان ينفعل ويتفاعل بما يقتضيه سلوك الانتخابات الأميركية، وكانت دول الخليج والمملكة تلتزم الصمت لسببين: الأول أن لا صفة له في السلطة التنفيذية الأميركية، وإنما هو مجرد مرشح رئاسي قد يفوز وقد يخسر. والثاني لأنها تدرك أن هذا جزء من المزايدات الانتخابية التي تمثل قاعدة: «انتقاد من لا يشبهني كي يحبني من يشبهني»، ركيزة أساسية لها. وحين دخل ترامب البيت الأبيض، تغيرت لغته في ما يخص الحلفاء في ما وراء البحار. وصار لين الجانب تجاه من كان متشدداً ضده. وقال في أكثر من مناسبة أنه حريص على المحافظة على علاقة أميركا القوية بحلفائها التقليديين في العالم. وعند زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واشنطن قبل أسابيع، كانت أميركا الجديدة على الموعد، وأظهرت إدارة ترامب - من خلال نوعية الاجتماعات وحجمها - احتراماً عميقاً للدولة التي ظلت وفية لصداقاتها الدولية على مدى عقود طويلة. وصدرت غداة الزيارة بيانات من الطرفين تؤكد قوة العلاقة بينهما، وتتطلع إلى تعميقها وتمتينها بما يتناسب مع التغيرات العالمية الجديدة.
وقبل أسبوع، عاد الرئيس ترامب إلى أجواء الحملات الانتخابية منتصف العام الماضي، وجدد مسألة الحماية الأميركية للسعودية، وأن على الرياض أن تدفع مقابل ذلك، مضيفاً أن السعودية لم تتعامل بعدالة مع الولايات المتحدة، وشاكياً من خسارة واشنطن أموالاً هائلة في الدفاع عن المملكة.
كلام المرشح ترامب نستطيع أن نتقبله من مبدأ «ما يقال في الانتخابات يذهب مع نهاية الانتخابات»، أما حديث الرئيس ترامب فلا يمكن أن يعبر إلى وجداني كسعودي قبل أن أختتم مقالتي هذه بحكايتين صغيرتين:
السعودية ليست إسرائيل أو كوريا الجنوبية تحتاج إلى مظلة أميركية دائمة. والخطر الذي يتهددها في المنطقة قادرة على مواجهته بما لديها من إمكانات ومنظومات عسكرية دفعت قيمتها مقدماً، ولم تحصل عليها كمعونة عسكرية من أي دولة كانت كما هي الحال بالنسبة لبعض دول المنطقة. ثمن «بعض» السلاح الذي تحمي به السعودية حدودها دفعته كاملاً لأميركا! بالتالي، فأين الحماية التي يتحدث عنها السيد ترامب؟ إلا إذا كان يريد السعوديين أن يدفعوا قيمة السلاح ثم يعودوا ليدفعوا قيمة الموافقة على بيع السلاح فهذه مسألة فيها نظر!
الحكاية الثانية - وهي التي أرجحها - تتمثل في أن السيد ترامب يخاطب شعبه بهذا التوجه لا أقل ولا أكثر، فهو يعرف أنه سيوقع خلال زيارته المرتقبة السعودية عدداً من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية كما جرت العادة السعودية أخيراً مع دول كبرى في العالم، مثل الصين واليابان وروسيا وألمانيا وغيرها، بهدف الحد من الاعتمادية على النفط، وتحقيقاً ودعماً لرؤية ٢٠٣٠. يتحدث الآن لشعبه في واشنطن عن الحماية الأميركية لدول الخليج، وغداً سيقول لشعبه أيضاً أن توقيع هذه الاتفاقات هو الثمن الذي دفعته السعودية للولايات المتحدة مقابل حمايتها! يفعل هذا السلوك الانتخابي وهو الرجل الذي يعيش الآن في البيت الأبيض.
لكن السؤال يبقى: هل على وزارات الخارجية في دول الخليج أن تفرق بين المرشح ترامب والرئيس ترامب؟ أم إنها ستغض الطرف عن صديق ما زال يعاني من ارتدادات زلزال الانتخابات؟
التعليقات