يوسف مكي
حمى القرآن الكريم لغة العرب، وبه اكتسبت هذه اللغة قداسة خاصة كونها لغة الوحي، وربما كان اعتبار اللغة عاملا حاسما في تشكل الأمة، أمرا طبيعيا في حينه
نناقش فكرة الأمة في هذا الحديث، ليس بمفهومها الديني الذي ورد بالقرآن الكريم، وليس بالمفهوم التراثي الذي حملته المصادر العربية القديمة، ولكن في مفهومها السياسي المعاصر، الذي ارتبط بنشوء الدول القومية في القارة الأوروبية. ومن مناقشة هذا المفهوم في علاقته بالأمة العربية، وبالوضع المتشظي الراهن، وبشكل خاص في علاقة اللغة والجغرافيا بتشكيل الأمم، ومن بينها أمة العرب.
جمعت اللغة اللاتينية، معظم دول القارة الأوروبية، تحت سقفها. لكن هذه اللغة، شأنها شأن مختلف لغات العالم، حملت لهجات مختلفة، وذلك بسبب الانقطاع في الجغرافيا، فيما قبل الثورة الصناعية، وتطور مختلف أشكال النقل الحديثة.
الدول الأوروبية الحديثة لم تكن موجودة قبل عصر القوميات، حيث كانت أوروبا موزعة إلى إمارات وممالك صغيرة. لكن التطور التاريخي، ونشوء الطبقة الرأسمالية، أوجد حاجة ماسة لأسواق أوسع، اعتماد فكرة الأبعاد الاقتصادية الكبيرة، وكسر الحواجز الجمركية.
وقد أدى التباعد بين اللهجات اللاتينية إلى أن تمسي كل لهجة لغة مستقلة قائمة بذاتها. وحين تشكلت الدول الأوروبية الحديثة، وفي مقدمتها ألمانيا بسمارك، وضعت حدودها على أساس اللغة، التي كانت في السابق واحدة من اللهجات اللاتينية. وعلى هذا الأساس يشير عنصر الجغرافيا إلى الأقوام التي تنطق بلغة واحدة، وتعيش معا في بقعة مشتركة.
ومن هنا فإن الاستخدام الحديث للدولة المعاصرة، في القارة الأوروبية، يتطابق مع مفهوم الأمة. ومن هنا جاء تعبير الدولة القومية «Nation State». والإشارة هنا إلى أقوام ينطقون لغة مشتركة، ويعيشون في جغرافيا مشتركة، ضمن حدود حكومة تمارس سلطتها في حدود هذه الجغرافيا.
ومن هنا حالة الارتباك التي نشهدها في القاموس العربي، تجاه مفهومي الأمة والدولة، كونهما في الواقع العربي منفصلين تماما. فالأمة رغم كل العناصر الإيجابية التي تحرض على وجودها في شكل دولة، ليست قائمة، رغم كونها مثلت طموحا كبيرا لدى نخب عربية واسعة، منذ منتصف القرن الثامن عشر، لكن تحقيقها كان ولا يزال رهنا بالإرادة والقدرة، وليس للعرب في حاضرهم ما يشير إلى توفر القدرة أو الإرادة من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل.
في الواقع العربي تستخدم الدول مفهوم «القومي»، بشكل أريحي ومكثف، في كل مجالات أنشطة الدولة. فهناك دخل قومي، ومحصول قومي، ومجالس قومية. وأحيانا يجري تصحيح هذه المفردة، بالدخل الوطني والوحدة الوطنية، والحرس الوطني، وما إلى ذلك. وفي الحالتين يشير التعبيران إلى حالة الدولة/ التي هي جزء من أمة.
لا يوجد في اللغات الحية الأخرى تمييز واضح بين الوطني والقومي، لأن حالة الارتباط هذه ليست موجودة لديهم. فالدولة الحديثة التي ارتبطت بالثورات الصناعية، قامت على أسس قومية، ومن هنا فليس هناك تضارب بين مفاهيم الدولة والأمة والوطن، فكلها تشير إلى جسد واحد، مستند على هياكل عصرية.
فكرة الأمة لدى العرب، في تاريخهم المعاصر، ارتبطت باللغة. وذلك بديهي لسببين رئيسيين. الأول أن زعماء اليقظة العربية التي انطلقت من بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) هم في غالبيتهم من المسيحيين. وقد جاء تأسيس حركة اليقظة كرد فعل على السياسة العنصرية بحق العرب من قبل السلطنة العثمانية. وكان المسيحيون أكثر عرضة للاضطهاد من إخوانهم العرب المسلمين، ذلك أنهم كانوا عرضة لاضطهاد قومي وديني في آن واحد. أما المسلمون فكانوا يشاركون العثمانيين في ديانة واحدة، هي الدين الإسلامي الحنيف. وكانت معضلتهم مع العثمانيين تتلخص في الاضطهاد القومي الذي يتعرضون له ليس غير.
من هنا ركزت حركة اليقظة العربية على اللغة كعنصر حاسم، ووحيد في تشكيل الأمة العربية. صحيح أن الجغرافيا والتاريخ والدين ذكروا كعناصر مهمة في تشكيل الأمة، لكن جميع هذه العناصر تحيل إلى الناطقين باللغة العربية، وليست معنية بغيرهم.
وقد ساعد على قبول ذلك الدور التاريخي للقرآن الكريم في حماية اللغة العربية إبان الهيمنة العثمانية، وأيضا الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على بلدان المغرب العربي. لقد حمى القرآن الكريم لغة العرب، وبه اكتسبت هذه اللغة قداسة خاصة، كونها لغة الوحي الذي أنزل من الله.
وربما كان اعتبار اللغة عاملا حاسما في تشكل الأمة، من قبل رواد حركة اليقظة العربية، أمرا طبيعيا في حينه، فسكان بلاد الشام في غالبيتهم هم من العرب. وما هو متواجد من أكراد وشركس وأرمن في تلك الفترة، هم بحكم الضيوف الوافدين لبلاد الشام، وليسوا من سكانها الأصليين. لكن هذا الحال لا ينسحب على سبيل المثال، على العراق الذي يضم ما يقرب من 20 في المائة من سكانه من الكرد. كما لا ينسحب على السودان الذي ينتمي سكان الجنوب فيه إلى لغات إفريقية. وأيضا وضع جملة من الإشكالات مع الإخوة الأمازيغ المتواجدين في أكثر من أربعة أقطار عربية.
لكن ذلك أوجد معضلة أخرى في الواقع العربي. فتجاهل انتماء غير العرب للأمة جعلهم يشعرون بأن انتماءهم للبلدان العربية منتقص، وأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وقد شجع هذا الواقع على بروز نزعات انفصالية، بدأت تفصح عن نفسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في خط بياني متصاعد، كما هو الحال في شمال العراق وجنوب السودان، والأطروحات التي تبرز بين فينة وأخرى لأقليات تعتبر نفسها من أجناس عرقية مختلفة.
ذلك يعيدنا مرة أخرى إلى عناصر تشكل الأمم. فهناك أمم عريقة كالهند والصين، تضم عشرات اللغات، ومع ذلك تشكل كل منها أمة واحدة. وعنصر تشكيل هذه الأمة ليس اللغة، بل الجغرافيا الموحدة والعيش المشترك.
في هذا السياق، لا مناص من المراجعة المستمرة للفكر السياسي العربي، وتطويره على أساس يضمن السلم الاجتماعي وحقوق المواطنة والعيش المشترك، وأيضا يضمن الدفاع عن الأمن القومي والوطني للأمة.
التعليقات