عثمان الماجد 

 بعيدًا عن الجلبة الإعلامية غير المبررة التي تحدثها الجريدة التي تعرفون مع كل موعد يحدد لمحاكمة الشيخ عيسى قاسم، فإن أمر النطق بالحكم أو مد أجله فهو مرهون بيد المحكمة لا بيد غيرها، فإني سآخذك، قارئي الكريم، إلى مجال آخر من الإعلام التحريضي، سآخذك إلى بيان تحدث بعالي النبرة أيضًا عن محاكمة الشيخ عيسى قاسم، ولكن ذلك كان قبل انعقاد جلسة المحاكمة بأيام، وسترون العجب العجاب.


ففي يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي قرأت بيانًا فور وصوله إلي على «الواتسآب»، وقد أرفقه مرسله إلي بتساؤل مفاده: بم يمكن الرد على مثل هذا البيان؟ ولم ينسَ المرسل إرفاق سؤاله بـ«إيموجي» ضاحك! فسرت هذا التساؤل بأنه دعوة ذكية إلي تأمرني بالكتابة طلبًا لشيء من التخفيف عليه من لغة التحريض التي بلغت أعنان السماء في غلوائها بما تضمنه البيان، وعانقت في نفسها الخطابي تفاصيل الفوضى التي تعم بعض البلدان العربية وتقودها الأصولية الدينية. هذا البيان أصدره «علماء» دين معترضون، كما هم دائما، ومحتجون على العدالة أن تأخذ مجراها ضد من يتجاوز حدوده ويتمادى في التعدي على القانون. ورغم قصر البيان ومحدودية كلماته إلا أنه أخافني حقيقة. أخافني من حيث شطط الموقف فيه وبلوغه حدود الأقاصي تطرفًا، أخافني من حيث نبرة التحدي والتجاوز الصريح للقوانين المرعية في البلاد!! أخافني من حيث حدة الخطاب، وقد كان مشحونا ثقة ويقينا باستجابة الجمهور إلى ما يحرض عليه هذا البيان ويدفع بالناس البسطاء لارتكاب الحماقات في الشوارع.
سألت نفسي، هل أكتب عن هذا البيان، مثلما تناولت فيما مضى كثيرًا من البيانات المماثلة التي كان يصدرها «المجلس العلمائي» غير المأسوف على حله، أم أتجاهله وأتعامل معه كأنه لم يكن وكفى الله المؤمنين شر القتال، على اعتبار أنه لن يؤثر في شيء على إنفاذ القانون؟ لم يطل بي التفكير، فأعددت صفحة «الورد» في «اللاب توب»، لألبي نداء داخليًا أملاه علي الواجب الوطني بالمساهمة في الدفاع عن مملكة البحرين دولة مدنية خليفية، وعن المجتمع البحريني المنفتح على آفاق الحضارة والمدنية إزاء ما تضمنه البيان من مغالطات ومكابرات وغرور ليس له ما يبرره أمام سلطة الدولة وخيارها الدستوري في تطبيق القانون على كل متجاوز عابث بالأمن الوطني وضوابط العيش معًا كائنًا من كان.
ولعلّ سائلاً يسأل، وهو بسؤاله محق، ما الذي أثار مخاوفي عند قراءة هذا البيان؟ وردًّا على هذا السؤال أقول إن ما أثارني نفس التقديس الذي أضفاه كاتبو هذا البيان على من كتب البيان من أجله، وهو الشيخ عيسى قاسم الذي يواجه محاكمة تتوافر له فيها الضمانات والحقوق المقررة أمام المحكمة، لقد صيّره الجماعة بقدرة محرض «قائدًا ربانيًا»، وهذا الوصف يجعل عامة الناس وبسطاءهم بحكم سطوة المقدس عليهم ينصاعون إلى ما يأمر به هذا «القائد الرباني»، ويرون فيه الرجل المعصوم من الزلل، ويعتقدون من ثم بأنه مظلوم مكذوب عليه مستهدف، وبأن استهدافه استهداف للدين نفسه. إن هذا الوصف يعطي انطباعًا بأن هذا «القائد الرباني» هو من ينبغي أن يستمع إليه في الدولة وهو من على الجميع أن يلبوا كل دعوة تنطلق منه، وهو ما تم بالفعل عندما أطلق دعوته الشهيرة «اسحقوهم». فما الذي يتبقى، للدولة من هيبة إذا اختصت هذه الجماعة مع الشيخ عيسى قاسم، بالقيادة الربانية، ثم جاء آخرون من مكون آخر ووصفوا أنفسهم بنفس الوصف، أو أطلقوا على أنفسهم صفة أخرى مشابهة ولكنها مشتقة من معجم المقدس ذاته، وناطقة بالمقاصد نفسها وإن اختلفت التسميات. دعوا الدين يعمل بعيدًا عن السياسة وإلا لن يستقر الأمن في ربوع بلادنا، وسنرى مع الوقت أننا نستدعي أسوأ التجارب العربية في الخراب لنبلو بها بلادنا.
بالعودة إلى نص البيان، نقرأ فيه بأن القضاء يستهدف الشيخ عيسى قاسم.. كيف!! فيما واقع الحال يحيلنا إلى أن الشيخ نفسه تجاوز القضاء وكل المؤسسات ليستهدف الدولة منذ زمن طويل، وكانت الدولة طول الوقت في هذا الزمن الطويل تتغاضى، وتصفح لعلّ الرجل يعود إليه رشده وشيء من الصواب فيتراجع عن اعتبار نفسه «قائدًا ربانيًا»، ويعود مواطنًا عاديًا له ما للمواطنين عامة وعليه ما عليهم، ولكن لا شيء من ذلك حصل. إلى أن بلغت الأمور منتهاها، وبعد اسقاط جنسيته، بتورطه في جريمة تدور وقائعها حول اكتساب أموال غير مشروعة حصلها الرجل عبر جمعها من دون ترخيص. وهذه التهمة يشير إليها البيان السالف، تبريئًا لساحة «القائد الرباني»، فتكيف التهمة لتصبح «استهدافًا» لمن فوّضه الله في الأرض ليجمع ما يؤديه الناس من فريضة الخمس الشرعية.
ردًّا على بيان من نصبوا أنفسهم علماء ونابوا عن الله في تعيين من يمثل الدين لي سؤال يتيم فحسب أرجو من سماحتهم إجابتي عنه: هل من المعقول أن مملكة البحرين باعتبارها دولة مؤسسات دستورية تستهدف مكونًا أصيلاً من مكونات الوطن، وهي التي أقامت تاريخها ومشروعها الحضاري على مبادئ الانسجام والانصهار بين كافة مكونات المجتمع؟ إن التاريخ يشهد على العلاقات الإنسانية التي تجمع كل المكونات الاجتماعية تحت كنف حكومة البحرين منذ مرحلة التأسيس الأول، وهي ذات العلاقات التي أرادت القيادة السياسية لهذه المملكة العزيزة أن تقيم على أساسها مثال مجتمع المواطنة الذي يتعالى على كل ما يفرق بل ويحوّله إلى تنوع تقوى به روابط المواطنة وتتعزز قيم الانتماء والولاء، وهذا وحده حجة تدحض كل المزاعم التي أتى على ذكرها البيان القصير صراحة ومواربة، باسم المقدس إلى القول إن الحكومة تستهدف مكونًا أصيلاً من مكونات مجتمعنا البحريني.
ثم دعوني أذكر بأن القضاء حين يقوم اليوم بمحاكمة الشيخ عيسى قاسم، فإنه يحاكم مواطنًا متهمًا تبقى قرينة البراءة حقًا من حقوقه ما لم يبت القضاء في أمره نهائيًا، وهو في كل هذا لا يحاكم المذهب الشيعي الكريم، إذ لا علم لنا بأن عيسى قاسم هو المذهب الشيعي. البيان صراحة يحرّض العامة على القضاء وعلى الحكومة تحريضًا صريحًا، وهذا شيء لا ينبغي السكوت عنه، فهو جريمة صريحة نكراء كل القرائن فيها تشير إلى التحريض على عصيان مدني وفوضى وألوان من العنف وجدت كدعوة السحق السابقة فتواها فيمن سمّوا أنفسهم علماء.