حميد الكفائي

من الغرائب النادرة حتى في العراق، بلد العجائب، ان قادة «الحشد الشعبي»، الذي يفترض أنه يتكون من متطوعين لبّوا نداء الواجب الوطني وتطوعوا للدفاع عن بلدهم ضد الجماعات الإرهابية في منتصف 2014، يرفضون العودة إلى الأوضاع الطبيعية التي سادت قبل ذلك التاريخ والتي يفترض أنهم حاربوا من أجل إعادتها. فهم اليوم يصرون على البقاء مسلحين، على رغم انتفاء الحاجة لسلاحهم، بل يريدون أن يلعبوا دوراً سياسيًا أيضاً!

معظم العراقيين يقدِّرون عالياً شجاعة الذين تصدوا للجماعات الإرهابية وتضحياتهم الكبيرة، لكن إصرارهم على البقاء مسلحين واعتقادهم بأن دفاعهم يؤهلهم لأن يلعبوا دورًا سياسياً يجعل كثيرين يشككون في أنهم كانوا منـذ البـداية يحاولون استغلال الظرف العصيب الذي ضعفت فيه الدولة لتحقيق مكاسب سياسية وسلطوية. 

لقد أصبح «الحشد الشعبي» قوة عسكرية تأتمر (رسمياً) بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، والقانون السائد لا يسمح لأعضاء أي قوة عسكرية أو أمنية، إضافة إلى أعضاء الجهاز القضائي، الانخراط في العمل السياسي، لذلك فإن أي دور سياسي لهؤلاء سيكون مخالفاً للقانون. ومن يصر على البقاء مسلحاً على رغم زوال الأسباب التي دعته الى التسلح في دولة يفترض بأنها مدنية ديموقراطية، يصعُب الوثوق به لأن حمله السلاح في غياب العدو الخارجي، وإصراره على لعب دور سياسي، سيجعله يوظِّف سلاحه ضد منافسيه السياسيين وربما مخالفيه في العقيدة.

ومنذ تزايد عسكرة المجتمع بعد حزيران (يونيو) 2014 إثر سقوط الموصل ومناطق أخرى بأيدي «داعش»، تدهور الأمن وانتشرت أعمال القتل والخطف والاستيلاء على الممتلكات من دون أن تتمكن الشرطة في أحيان كثيرة من منع هذه الجرائم أو الإمساك بمدبريها ومنفذيها، على رغم أن معظمهم يستخدم سيارات الدولة وسلاحها وهوياتها وتسهيلاتها. 

آخر جرائم الخطف الشنيعة كان اختطاف الفنان الشاب كرّار نوشي الذي عُثر عليه مقتولاً مع وجود آثار التعذيب على جثته. وتكاد الآراء تتفق على أن سبب اختطافه هو «وسامته ولون شعره وتسريحته المميزة»! مثل هذا الاختلاف يزعج «المؤمنين» الذين يعطون لأنفسهم الحق في إرغام الناس على «الفضيلة»، علماً أن المغدور مؤمن ويتردد على المساجد! 

فالقتل في شريعتهم حلال بينما الوسامة وتسريحة الشعر المختلفة حرام! وقبل ذلك اختطف «مجهولون» الصحافية أفراح شوقي لكنهم اطلقوا سراحها إثر احتجاجات واسعة. وهؤلاء «المجهولون» هم الذين اختطفوا الصحافي حيدر العتابي ثم أفرجوا عنه من دون الإفصاح عن الأسباب.

ومن الظواهر التي فرزتها هذه الحالة الشاذة بروز دجالين يخدعون الناس ويسلبون ممتلكاتهم تحت مدعيات عدة. المدعو علي الباقري ارتدى عمامة سوداء وانتحل صفة قائد في «الحشد» ولم يُكتَشَف إلا بعدما فضحته ثقافته الضحلة التي اتضحت في بياناته البدائية نصًا ومضموناً. 

وتحت ذريعة «الجهاد ضد داعش» انخرط البعض ضمن متطوعي «الحشد» من اجل اكتساب «المشروعية» لممارسة أعمال لا علاقة لها بمهمة «الحشد» المعلنة. وبحجة «الدفاع عن العراق والامتثال لفتوى المرجعية الدينية»، أسست الأحزاب الدينية ميليشيات مسلحة هدفها الحقيقي تعزيز سطوتها على المجتمع بالقوة بعدما فقد الناس ثقتهم بها على مدى 14 عاماً من الفشل والفساد.

وتحت يافطة «الحشد»، نشطت الميليشيات التي كانت قد تحولت «رسمياً» إلى أحزاب أو منظمات سياسية، وأعادت تشكيل نفسها عسكريًا وأخذت تعمل علناً وتضع لافتاتها وصور قادتها وقتلاها في شوارع العاصمة وبقية المدن، وبعضها يرفع صور الزعيم الإيراني علي خامنئي بلا خجل من إعلان تبعيته لدولة أجنبية. وبعدما اصبح «الحشد» مؤسسة رسمية وصدر له قانون، اصبح عمل هذه الميليشيات علنياً إذ أخذت تسيِّر الدوريات رافعة لافتة «رئاسة الوزراء» وإلى جانبها أحياناً صورة خامنئي، وقد رأيتُها شخصياً تتجول في مناطق عدة منها ساحة الميدان وسط العاصمة قرب شارع المتنبي الذي يرتاده المثقفون والفنانون وطلاب المعرفة، وهي منطقة تقع خارج نطاق تحركات الجيش و «الحشد».

لقد بلغ عدد الميليشيات التي شكلت باسم «الحشد» و «من أجل محاربة داعش»، 50 ميليشيا وفق دراسة لكلية الحرب الأميركية صدرت في حزيران (يونيو) 2015، وربما تجاوز العدد هذا الرقم الآن لأن معظم الجماعات السياسية استغلت حجة خطر «داعش» لتشكل ميليشيات مسلحة. لم يبقَ مقدس لم تضعه المليشيات في أسمائها، بما فيها لفظ الجلالة. ولم تكتفِ بأسمائها الفردية المقدسة بل أضافت عبارة «المقدس» إلى اسم «الحشد» كي لا يعترض أحد على أي ممارسة لها وإن كانت إجرامية، لأن اعتراضاً كهذا سيُعتَبر «انتهاكاً للمقدسات».

بقاء هذه المليشيات، خصوصًا المرتبطة بدول أجنبية، يهدد وجود الدولة، وعلى الأحزاب السياسية الحقيقية، إن وجدت، أن تسعى إلى تفاهم سياسي بينها لإلغاء الميليشيات كليًا، أو في الأقل إخضاعها لسلطة الدولة وفك ارتباطها بالأحزاب السياسية. 

المرجعية الدينية الشيعية التي أصدرت فتوى «الجهاد الكفائي» ضد داعش عام 2014، والتي استغلتها الأحزاب لتشكيل ميليشيات تمكّنها من البقاء، مطالَبة اليوم بتوضيح موقفها من هذه الظاهرة الخطيرة كي يعرف الناس كيف يتعاملون معها. الميليشيات تستمد «شرعيتها» من فتوى الجهاد، لكنها لا تلتزم شروط الفتوى وهي الانضواء ضمن إطار الدولة وتحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة وعدم التمدد خارج وظيفتها الأساسية وهي مواجهة خطر «داعش». لكن الواضح أن رئيس الوزراء لا يمتلك أي سلطة فعلية على الميليشيات، وقد اتهمه أحد قادتها أخيراً بالكذب والمراوغة، ولو كان حقاً ينضوي تحت سلطته لاحترمه وأطاع أوامره.

إن من هزم داعش هو الجيش العراقي الذي نفض عنه غبار هزيمة 10 حزيران 2014 وتحلى بأعلى درجات الانضباط والروح الوطنية بعدما تولى قيادته ضباط أكفاء هدفهم الأساس بناء دولة قوية تحمي حدودها ومواطنيها. ومن الضروري عدم نسيان مواقف الدول الصديقة التي قدمت للعراق المال والسلاح والخبرات العسكرية والدعم السياسي. لكن النصر الذي حققه تلاحم الجيش والشعب ستذروه الرياح ويتحول وبالاً إن لم تتكاتف الجهود لنزع عسكرة المجتمع ولجم المتصيدين في الماء العكر الذين ربطوا وجودهم باستمرار الظروف الاستثنائية التي يجب أن تزول كي يعود العراق دولة مستقرة تلعب دوراً إيجابياً بين دول العالم.


* كاتب عراقي