شما بنت محمد بن خالد آل نهيان
بعد انتهاء شهر رمضان الكريم، وآثار الزخم الروحاني الذي عشته طوال هذا الشهر النوراني، ما زالت تفرد ستائرها على الروح، فقد ظللت طوال الشهر يغمرني فيض من التواصل الإلهي، يعيد ترتيب الروح والعقل والجسد، فهو ليس مجرد شهر للعبادة فقط، بل هو شهر يستعيد فيه الإنسان ذاته يزيح عن عقله وروحه الغبار الذي علق بهما طوال عام كامل، ويعيد فتح طاقات النور على العقل فيغمره نور المعرفة، ويعيد فتح مسام الروح فيتجدد يقينها.. في لحظة الإدراك هذه توقفت أمام مكتبتي وأنا متشوقة لحوار جديد مع كتاب أسافر معه إلى أحد مرافئ المعرفة.
نظرت تلك الكتب المصفوفة فوق الأرفف، وشعرت بها وكأنها تهمس فيما بينها، وتتواصل معي وكأن كل كتاب يحاول أن يقفز من مكانه بين يدي ويبتسم لي قائلاً اقرئيني.. كم هو مخيف ولكنه رائع أن تشعر بهمسات الكتب على الأرفف بل تسمعها كأن أنفاسها تلقي بدفئها في أذنك.. تساءلت مندهشة كيف لأناس لا يدركون جمال القراءة وروعة تلك العلاقة التي تربط الإنسان والكتاب.
في تلك اللحظة وصلتني رسالة من أخت وصديقة عزيزة بها مجموعة روابط لكتب إلكترونية ضخمة جداً، نظرت لتلك الروابط التي تحوي بين طياتها مئات الكتب وعدت لأنظر لتلك الأرفف التي تحوي آلاف الكتب دفعتني المفارقة للكتابة عن هذا الواقع الذي صنعته التكنولوجيا في عصرنا الحديث، وتساءلت عن دور الكتاب في حياتنا وقيمته في صنع العقول، وماذا عن مستقبل الكتاب وسط هذا الزخم الكبير والمتنامي لشبكات التواصل الاجتماعي، والإنترنت، والذي يؤدي حتماً إلى تراجع دور الكتاب في الحياة الثقافية، وانتشار الاعتماد على شبكات التواصل الاجتماعي، وأصبح البحث عن المعلومة والحقيقة والمعرفة يقتصر على الفيس بوك أو تويتر وغيرهما.
قررت أن أحاول الخروج من ضجيج السلبية إلى رؤية الأمور بصورة مغايرة والبحث حول إيجابيات العديد من تلك القضايا؟ نستخرج من تلك المخاطر التي تحيق بالحياة الثقافية وجهها الإيجابي علنا نستطيع أن نعظمها وننميها ليكون لها الانعكاس الإيجابي على العقل، فنكافح سلبياتها بإيجابياتها، ونحمي أجيالنا القادمة من تلك التداعيات.
يجب أن ندرك الدهشة التي يشعر بها الطفل من التدفق المعلوماتي الكبير عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فكما هناك صفحات ومواقع لا تقدم أي شيء مفيد ولكنها مبهرة، وتصيب الطفل دائماً بالدهشة نجد هناك مواقع وصفحات رصينة ثقافية ومعرفية عالية القيمة، يمكن أن تثير في عقله الرغبة في البحث، ولكن لابد أن نعترف بأن تلك الصفحات والمواقع ما زالت تقدم محتواها بعيداً عن تلك الحيوية والانبهارات والمرونة التي تقدمها الصفحات والمواقع الأخرى، ولذلك نحن نحتاج لإعادة نظر في إنشاء مواقع معرفية تكون قوية وحيوية ومبهرة للطفل تسافر به عبر الجوانب الإيجابية، وتثير فيه الدهشة تنمي فيه الرغبة في البحث عن المزيد من المعرفة، لا تصيبه بالتيبس الفكري والاستسلام. ورغم أننا قطعنا شوطاً جيداً في هذا الاتجاه ولكننا ما زلنا نحتاج للمزيد والمزيد من الجهود والتطوير.
إن حرص الآباء على مشاركة أبنائهم في تلك الاهتمامات يساهم بقدر كبير في التنمية المعرفية لهم، ولكن لابد أن تكون بروح التشاركية لا المراقبة التي تبعد الأبناء عن مشاركة الآباء. وكذلك لابد دائماً أن ندمج الكتاب في علاقة تكاملية مع شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، ونشجع الأبناء على فرد مساحة من وقتهم للقراءة وتكوين آرائهم الخاصة ونشجعهم على نشرها عبر صفحاتهم. فنحن هنا نساهم في تكوين شخصيات قادرة على التعبير عن آرائها، قادرة على الإبداع والابتكار والتعامل مع معطيات الحضارة الحديثة، مع الحرص على عدم الإخلال بالعلاقة بينهم وبين الموروث الثقافي والأخلاقي للمجتمع، مما يسهم في تكوين مواطن صالح متفتح ذي عقل قادر على التمييز، لتستقيم العلاقة ما بينه وبين التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، ويكون متجاوباً ومتفاعلاً لا ضحية لها، ويكون الكتاب جزءاً من يومه.
في الأزمنة السحيقة كانت هناك طرق للمعرفة مختلفة كالتلقين والكتابة على الأحجار وعلى الجلود، ولم يكن للأوراق وجود في الحياة ولكن التطور البشري صنع الورق ومن الورق صنع الكتاب، ومنذ طباعة أول كتاب ما بين عام 1440- 1450م بدأ يصبح الكتاب المطبوع هو البساط السحري الذي يلف بنا عالم المعرفة، ويحفظ بين جوانحه أفكار العلماء والمفكرين والأدباء، وفي السنوات الأخيرة نعيش عصر تحولات كبيرة، ويتحول الكتاب من الحالة الورقية للحالة الإلكترونية، وقد يأتي يوم تختفي الأوراق من حياتنا ولكن الكتاب لن يختفي، هو مجرد تغير في الشكل كما تغير شكل الكتاب على مر التاريخ كوسيلة للمعرفة وصولاً إلى حاضرنا، حتماً سيتغير في المستقبل ولكن الشكل ليس هو العنصر الأهم، وإنما بقاء المعرفة مصدراً لنمو العقل البشري وتنمية الإنسان فهذا هو المفصل المحوري في الأمر، أن نقرأ ونعرف ونبحث ونتعلم ونعيد إنتاج الأفكار، فالكتاب ما هو إلا ثوب ترتديه الأفكار.
إن القضية المحورية أن يظل الإنسان يبحث عن المعرفة، ويقرأ ليتعلم ويفتح مداركه على العوالم المختلفة، ويعيد إنتاج الأفكار يضمنها كتاباً ورقياً أو كتاباً إلكترونياً أو أي شكل من أشكال الإبداع الإنساني، ولابد أن يبقى الكتاب -بأي شكل هو عليه- قائماً في مفردات الثقافة الإنسانية، والمحافظة على القراءة سلوكاً حضارياً يكتمل به نمو المجتمعات وبقاءها على طريق التطور والتقدم والحضارة.
وفي نهاية المقال أطرح عليكم تساؤلاً حول تخيلكم أعزائي القراء للشكل الذي يمكن أن يكون عليه الكتاب في المستقبل؟
التعليقات