العرب.. الخروج من تابوت التاريخ نحو فضاء المستقبل.. 

عبيدلي العبيدلي

قراءة سريعة غير متأنية للمشهد السياسي/‏ الاقتصادي العربي تصيب صاحبها بحالة من الإحباط، الذي إذا سمح له بالتطور والانتشار، فمن غير المستبعد أن يقع صاحبة فريسة سهلة لحالة متقدمة من اليأس التي تقود إلى الانتحار السياسي، بالمعنى الواسع للكلمة. ما يحز في النفس أن هذه الحالة التي نتحدث عنها لم تعد محصورة في قراءات الشباب البعيد عن التجربة التي تعينه على قراءة أخرى من الطبيعي، بل من الضروري أن تكون مختلفة، بل هي مستشرية ومتغلغلة حتى في نفوس القيادات العربية، بمن فيها تلك التي تؤثر على مسار دوائر صناعة القرار العربي.


تساعد على استشراء هذه النظرة، التي تعتبر سطحية، من المنظار التقويمي لمسيرات الأمم، وتاريخ الشعوب، بعض حالات الفشل التي عانى، وما يزال يعاني منها العديد من البلدان العربية ذات الثقل المعتبر في خارطة العلاقات العربية الداخلية، والعلاقات العربية – الدولية الخارجية، من مستوى مصر والعراق من جانب، وتعثر بعض المشروعات العربية ذات المستوى الإقليمي، مثل اتفاقيات الدفاع العربي المشترك، واتفاقيات السوق العربية المشتركة من ناحية أخرى.
بداية، لا بد من الاعتراف، لكنه الاعتراف المتوازن غير الأسير لتلك القراءة السوداء، أن الوضع العربي ليس في أفضل حالاته، وأن العرب يعانون اليوم، أكثر من أي مرحلة من مراحل التاريخ العربي المعاصر من وضع متراجع تعود أسبابه إلى عوامل كثيرة البعض منها ذاتي، والبعض الآخر منها موضوعي، يعود لتدخل قوى خارجية في الشؤون الداخلية العربية. نشير إلى العامل الخارجي، ليس من باب إخلاء ذمة العرب من مسؤوليتهم عن الوضع غير المسر الذي نحن فيه، ولكن من اجل اكتمال معالم الصورة، ووضعها في إطارها السديد الذي يبيح الرؤية السليمة، ومن ثم يفتح الآفاق أمام قراءة شمولية صحيحة.
حقيقة الأمر، ولمن يبصر بنظرة متفحصة، وينطلق من قراءة موضوعية شاملة سيكتشف أن المرحلة العربية على مرارة طعمها، وقسوة شروطها، لكنها تحمل في طيات عواملها، وفي ثنايا عناصرها الكثير من مقومات القوة التي تمكن العرب من التمرد على كبوتهم، وتساعدهم على الانتفاض على واقعهم.
ليس في وسع أحد إنكار أن الوضع سيء، وأننا نحن العرب لسنا اليوم في أحسن حالاتنا، لكن بالمقابل من الخطأ، بل ربما من الجريمة أن يقودنا ذلك إلى الاستسلام لهذا الواقع، والتدحرج نحو هاوية اليأس الذي ستكون نهايته المزيد من الخضوع لشروط الأجنبي أولا، وهنا يكمن الخطر، وفقدان القدرة على استخدام عوامل القوة واستنهاض الذات، وهنا يقع مربط الفرس ثانيا وليس أخيرا.
الخطوة الأولى التي تعيننا على الخروج من دائرة اليأس الضيقة التي تمسك بتلابيبنا، هي التمرد الواعي الناضج على حالة الإحباط. والمقصود بالتمرد هنا ليس الرفض الأرعن المتعالي، لكنه الرفض الناضج المتأني. في صلب هذا التمرد تستقر نواة الثقة في الذات، وتستتب في هدوء، وليس النوم، بذرة الانتفاض على ذلك الواقع.
ولكي نضمن لهذا التمرد الناضج مقومات النجاح أولا والاستمرار والديمومة ثانيا، لا بد لنا من التخلص نهائيا من أسر التاريخ، والانطلاق نحو المستقبل. ومرة أخرى رفض التاريخ ليس المقصود منه احتقار ذلك التاريخ، أو التنصل منه. ففي كتاب ذلك التاريخ صفحات ناصعة تتحدث عن إنجازات العرب، وتسرد ما أحرزوه من تقدم علمي، وانجازات اقتصادية، وما حققوه من إرث حضاري يعتد به الغير قبل العرب أنفسهم. لكن ذلك كله، رغم أهميته، يبقى تاريخا لا يملك اليوم مفاتيح التقدم المطلوبة، ولا عناصر السير نحو الأمام التي لا يمكن الاستغناء عنها.
بعد هذا التمرد على موجة اليأس تأتي خطوة التفتيش المسؤول الشفاف عن عناصر الضعف من أجل استئصالها، والبحث الجاد الموثوق به عن عوامل القوة من أجل تنميتها وتعزيز حضورها.
ستكتشف هذه النظرة المتأنية الفاحصة، المزودة بميكروسكوب ذا عدسة مستقبلية، وليس نظارة سوداء ذات عدسة تاريخية مقعرة، ان تحت أيدي العرب، وبحوزتهم اليوم الكثير من عناصر القوة، التي متى ما استنهضت ستتمكن من قلب الطاولة على عوامل الضعف أولا، وتغيير المسار العربي ثانيا، وليس أخيرا.
ليس هنا مجال الخوض في تفاصيل عوامل القوة هذه، لكن سنكتفي عوضا عن ذلك عن سردها في هيئة عناوين كبيرة تحمل في أحشائها الكثير من التفاصيل التي تؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه من أن بين يدي العرب الكثير من مقومات النهوض والتقدم.
فعلى المستوى الاقتصادي، لا نكتفي بالتوقف عند النفط والغاز الذي بحوزة الدول العربية، التي يشكل مخزونها الاحتياطي نسبة عالية من المخزون الدولي، سوية مع قدرة لا يستهان بها على مستوى التصدير والتصنيع، بكل ما تحمله كلمة تصنيع من معنى، بل سندمج ذلك مع السيولة النقدية التي راكمتها الثروة النفطية تمكن العرب من تبوئ مكانة مرموقة في موازين الاقتصاد الدولي. ويتكمل هذان العاملان: النفط والسيولة النقدية مع سوق عربية مترامية الأطراف تبيح للعرب فرض شروطهم التي تدافع عن مصالحهم السياسية قبل المالية، على من يريد ولوج هذه السوق الكبيرة والمتنامية في آن، وأن تكون له حصة فيها.
أما على مستوى الجغرافيا السياسية في خارطة العلاقات الدولية، فيمكن، حينما نتجاوز خلافاتنا الداخلية النزقة، أن نتحول إلى كتلة جغرافية سياسية لها مكانتها المميزة، وحيزها المرموق على الصعيد العالمي. تكفي الإشارة هنا إلى أن ارقعة الجغرافية العربية، تلامس حدود التقاء قارات العالم القديم الثلاث. وفي ذلك الموقع الكثير من عناصر القوة، إذا ما استخدمت بشكل جيد، وعلى نحو ناضج، بعيدا عن طيش الاستعلاء من جانب، وضعف الخوف واحتقار الذات من جانب آخر.
ويستتبع هذين العاملين عوامل أخرى لا تقل قيمتها في موازين القوى الدولية عنهما من بينها العامل الحضاري، والعامل الاجتماعي.
يبقى المطلوب اليوم من التمرد العربي، إن شاء العرب ان تكون لهم مكانتهم التي يستحقونها بين الأمم الأخرى أن يكسروا جدران تابوت التاريخ الضيق الذي حصروا أنفسهم فيه، كي يتمكنوا من الانطلاق نحو فضاء المستقبل القادم الذي ينبغي عليهم أن يتوقوا إليه.