عبد المنعم المشاط
درسنا ودرَّسنا وحللنا وطورنا نظرية الأمن القومى العربي، وحددنا مصادر تهديده، وكيفية صيانته والارتقاء به، وكتبنا عن السياسات الأمنية العربية، وعرَّفنا الأمن القومى العربى بأنه حاصل جمع الأمن الوطنى للدول أعضاء جامعة الدول العربية، وأن أى انتقاص لأمن أية دولة يقود إلى الحد من قوة الأمن القومى العربي، وحذرنا من الاستراتيچيات الإقليمية والدولية المناوئة لأمن العرب مجتمعين، وفى ضوء تجزئة العراق واحتمالات تقسيم سوريا وانهيار ليبيا والصومال، وانقسام السودان، ودعم قطر لأحد أهم مصادر التهديد للأمن القومى العربي، وهو الإرهاب الدينى سواء بطريق داعش، أو جبهة النصرة أو فلول القاعدة أو المنظمات الإرهابية المتفرعة عن الإخوان المسلمين، أو التحالف مع إيران وتركيا علنًا، ومع إسرائيل سرًا، يصير السؤال المؤلم هل ما زال يمكن الحديث عن الأمن القومى العربي؟ وماذا بقى منه؟ أم أنه قد تم اختراقه توطئة لهدم ما تبقى منه، وهل هناك سبل لإعادة اللُحمة إلى كيان الأمة العربية لدرء هذا الخطر المحدق بها وبمستقبلها؟ حينما أنشأ أباؤنا الأولون جامعة الدول العربية عام 1945 ككيان إقليمى يضم الدول العربية السبع المستقلة آنذاك وفتحها للدول العربية المستقلة فيما بعد، أدركوا عام 1950 أهمية استكمال هذا الكيان باتفاق أمنى كامل يتمثل فى معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، والتى تضم وزراء الدفاع ورؤساء الأركان، وتم تفعيلها عام 1964 بإنشاء القيادة العسكرية العربية المشتركة ومقرها عمَّان لمواجهة مخططات إسرائيل لتحويل مجرى مياه نهر الأردن، كما تم توظيف نصوص الميثاق بشأن الضمان الجماعى لمواجهة محاولات العراق عام 1962 ثم عام 1990 لاحتلال الكويت، وفوق ذلك استخدمت روح معاهدة الدفاع المشترك فى مساندة كل من مصر وسوريا عسكريًا وماليًا للاستعداد لحرب تحرير الأراضى العربية المحتلة فى حرب 1973، وتكاملت الأعمال العسكرية مع الإرادة السياسية العربية للإعلاء من قيمة البترول كمورد طبيعى وحيد لدول الخليج العربية وليبيا والجزائر، وهكذا، شهدت السنوات التالية على حرب 1973 صحوة ملحوظة للأمن القومى العربى فيما عدا جنون القيادة العراقية آنذاك بالرغبة فى احتلال الكويت وغيرها من الدول العربية الخليجية.
بيد أن اعتلاء اليمين المتطرف السلطة فى الولايات المتحدة، فيما أُطلق عليهم المحافظون الجدد، وفى إسرائيل وفى تركيا وكذلك إيران أدى إلى إعادة النظر بجدية فى اختراق الأمن القومى العربى بطرق عدة، فمن ناحية، قرر المحافظون الجدد وضع استراتيچية واضحة لتدمير العراق ثم سوريا - الجبهة الشرقية المناوئة لإسرائيل، وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 فرصة سانحة لتحقيق ذلك، وتم التحالف مع إيران لاحتلال العراق، ثم التحالف الاستراتيچى بين إسرائيل وتركيا لاختراق الوطن العربي، ثم توظيف الثورات العربية فى 2011 للدفع بالإخوان وقوى التطرف الدينى إلى السلطة تحقيقًا لاستراتيچية الولايات المتحدة لإعادة تقسيم الدول العربية طبقًا للتركيبة الديموجرافية عرقيًا ودينيًا ومذهبيًا وانحيازًا لاستراتيچية إسرائيل المعلنة بشأن تهيئة المناخ الملائم لبناء إسرائيل الكبرى بعد أن استقرت فى أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد وما تلاها من اتفاقيات مع الأردن ولبنان والفلسطينيين.
وهكذا، تم من ناحية تدمير القدرات العسكرية العربية باستثناء قوات مصر -الدولة الإقليمية المركزية، وإشعال حروب بالوكالة فى اليمن وسوريا وليبيا، وقبل ذلك فى الصومال، ليس فقط لاستنزاف الموارد وإجهاد القوات المسلحة العربية، وإنما، وهذا هو الأهم، خلق شروخ يصعب علاجها بين الدول العربية بصورة أدت ببعضها، مثل اليمن، إلى الاستقواء بإيران -دولة الجوار غير العربية والمعادية للعرب، ومن ناحية ثانية، سعت دول الجوار إلى تعطيش الوطن العربى بالتحكم فى مصادر المياه الطبيعية التى تصب فيه؛ فصارت تركيا تتحكم فى دجلة والفرات، وإسرائيل تتحكم فى مياه نهر الأردن وبحيرة طبرية ومصادر المياه فى الضفة الغربية، وإثيوبيا تتحكم فى مياه النيل بتوافق ظاهر مع السودان، وثالثًا- أصرت دول الجوار والقوى الكبرى على استمرار عملية تقسيم الدول العربية؛ ليبيا عرضة للتقسيم، وسوريا تقترب منه سواء بإعلان الحكم الذاتى للأكراد أو بتفعيل الإشراف العسكرى الأجنبى على مناطق الحد من التوتر/ المناطق الآمنة، والسودان مستمر فى مسلسل التقسيم بعد أن انفصل الجنوب، كما أن الصومال يتعرض لاستقلال جمهورية أرض الصومال عن الصومال الأم، ومن جانب رابع، صارت دول عربية مرتعًا للقواعد العسكرية الأجنبية المعادية للأمن القومى العربي، إذ أن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية موجودة فى قطر، كما توجد إلى جوارها قاعدة عسكرية تركية وتنتشر فيها قوات الحرس الثورى الإيراني، وچيبوتي؛ حيث أقامت الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل والصين واليابان قواعد عسكرية صار من الصعب مع وجودها أن تضيف چيبوتى إلى الأمن القومى العربي.
يتطلب هذا الاختراق أن تقوم مصر بالدعوة إلى مؤتمر قمة عربى طارئ لما بقى من الدول العربية مع محاولة جذب دول شمال أفريقيا إلى الحظيرة العربية مرة أخري، لمناقشة استراتيچية التئام الأمن القومى العربي، وإقالته من عثرته، لأن الاستناد إلى قوى اختراق الأمن القومى العربى لن تحقق إلا مزيدًا من الاختراق والانهيار، قمة عربية تبحث بجدية مستقبل الأمن والاستقرار فى الوطن العربى وكيفية الانتقال من حالة الانكشاف الاستراتيچى إلى مرحلة البناء الاستراتيچى المشترك.
التعليقات