سمير عطا الله
تكتظ نيويورك بالمهاجرين منذ أن اشتريَت من المستعمرين الهولنديين. إذن، لا جديد في الأمر. كانت هي بوابة أميركا للقادمين عبر الأطلسي. منهم من أكمل الرحلة إلى ولاية أخرى، فيها صديق أو قريب أو نسيب، ومنهم من تخلَّف.
الظاهرة «الجديدة» في المدينة التي سماها الزميل حافظ خير الله «طاحنة البشر»، أن معظم المهاجرين كانوا - وبعضهم لا يزال - يتذابحون بالأمس مع الأميركيين. من أفغان، بلباسهم التقليدي، وفيتناميين، وكمبوديين، إضافة إلى المهاجرين من الأعداء القدامى، من ألمان ويابانيين وصينيين، وملايين القادمين من دول محايدة.
ولو فتحت أبواب الهجرة أمام الفيتناميين مبكراً، لما تقاتل الفريقان في حرب قتل فيها نحو 60 ألف أميركي و3.5 مليون فيتنامي. ولكان الأميركيون وفروا عشرات المليارات وآلاف الأرواح، لو تركوا الأفغان يأتون إلى هنا، بدل الانهماك في حروب وزيرستان وتورا بورا.
أول زيارة لي إلى نيويورك، استوقفت سيارة تاكسي كان قد ترجل منها راكب ياباني، فقال السائق ضاحكاً: «هؤلاء الأوغاد (أو العلوج، إذا شئت) كنت أحاربهم بالأمس، واليوم أنقلهم في شوارع نيويورك».
كنا نلاحظ عندما نرى الحياة النيويوركية في السينما، أن الإشارات الضوئية في المدينة يكتب عليها: «امشِ، أو لا تمشِ» بدل الضوء الأحمر والأبيض. وعندما تعبر الشوارع هنا في ساعات الازدحام، تفهم السبب. إنها مدينة تمشي، أو تعدو، ولا مكان للمتمهلين. إيقاع هذه المدينة لا شبيه له في أي مكان. ويجب أن تدرك دائماً أن هناك فارقاً شديداً بين أن تكون أميركياً أو نيويوركياً. لست أعرف ما هو على وجه الضبط، لكنه يذكّرني بالمثل الفرنسي: «إنه يملك كل شيء ما عدا الأساس». ما هو الأساس؟ هذا متروك لك أن تحدده. فهو يختلف من إنسان إلى إنسان، ومن ثقافة إلى أخرى. وفي نيويورك، كل شيء معروف على وجه الأرض، وجميع الأعراق والعادات، والثوب التيبتي الأصفر من دون الدالاي لاما، وقبعات الأفغان التي تشبه جبالهم، وفيها أبراج ساحرة طاغية، تبين أبراج ترمب أمامها مثل روضة أطفال، لكنها مع ذلك، تفتقر إلى «الأساس»!
لا أعرف إن كان في إمكاني الآن أن «أسكن» في نيويورك. هناك دائماً الخوف من أنها تفتقر إلى «الأساس»، وأنها مدينة مثل منصة يجب أن تنطلق منها إلى مكان ما.
لو سُئلت عن لندن، لأجبت على الفور، ومن دون تردد: إنها أشبه بوطن تطمئن إليه طوال العمر. هذا المثل كان يقال عن لبنان، عندما كان لا يزال يملك «الأساس». أو أكثر من أساس. وكان أي إنسان، بمجرد أن يدلف إلى بيروت، يشعر أنها أصبحت وطنه. لكن بيروت صغيرة، وقد تكاثرت الأوطان عليها. من أين لها هذا الهول الهائل الذي يغني له فرانك سيناترا: «نيويورك! نيويورك».
التعليقات