سيناريو ما بعد الاستفتاء!
محمد الرميحي
يبدو أن هذه المنطقة (منطقة الشرق الأوسط العربية) مليئة بالقضايا الملحة والمتفجرة التي لم تجد لها بعد الحلول الناجعة والسلمية المناسبة. لقد ثارت في الأيام الأخيرة قضية الاستفتاء في كردستان العراق، وكأنها موضوع ظهر فجأة من العدم، في حين أنه كان هناك منذ عقود، كان الدخان قادماً من أربيل، إلا أن المطافئ لم تكن مستعدة لا في بغداد ولا أنقرة ولا طهران. الاهتمام بالقضايا الملحة في اللحظة الأخيرة دليل قاطع على أن عالمنا هو «عالم اللحظة» تجسيداً للقول المأثور عن امرئ القيس، الذي دُفن بالمناسبة في أنقرة: «اليوم خمر وغداً أمر». ولقد جاء الغد للبعض قبل أن يفيق! أصبح الاستفتاء خلفنا قد يكون قفزة إلى المجهول، وقد يكون «حسبة معلم» من السيد مسعود بارزاني.
لدينا أطروحتان؛ الأولى للكرد العراقيين، تقول إنهم دخلوا في شراكة مع المكونات العراقية الأخرى بعد عام 2003 من أجل بناء عراق وطني (ديمقراطي مدني حديث)، ووجدوا بعد طول تجربة، أنه عراق طائفي/ ديني، تتخلل مسامه شرور الفساد، ومتدخّل في شؤونه من عدد من الدول، على رأسها إيران الخمينية، تجره جراً إلى نوع من «ولاية الفقيه»! فلا مفر من فك الشراكة.
في الوقت نفسه الذي كان السيد مسعود بارزاني يتحدث فيه إلى العالم الأسبوع الماضي، من خلال مؤتمر صحافي عالمي، يُنقل مباشرة على شاشات التلفزيون، ظهر السيد حيدر العبادي ليدافع عن وجهة نظر السلطة المركزية، وتحدث الأخير كثيراً، ولكنه لم يكن مقنعاً، فقد ذهب إلى التذكير بقهر وظلم وعسف صدام حسين (وهذا غير مشكوك فيه)، وأن البعض قد تعاون معه من كل المكونات العراقية (إشارة إلى بعض الزعامات الكردية) ولكن السيد العبادي لم يقدم مشروعاً مقابلاً لأطروحات الكرد التي تشير إلى الفشل في إقامة «دولة مدنية حديثة وغير طائفية»، والشعوب تتوق إلى أن تلقي السمع إلى من يتحدث عن مستقبلها لا عن سفاحيها.
وعلى الرغم من أن «استقلال كردستان العراق» سوف يثير من الآن وصاعداً اللغط والأخذ والرد والشجار السياسي، وربما يتحول إلى شيء أكثر سخونة، يأخذ العراق إلى قاع آخر أعمق من القاع الذي وصل إليه حتى الآن، كما أن «الاستقلال» للعاقل هو عملية «انفصال»، دونها عقبات ضخمة، استراتيجية وعملية، قد تتحول فيها الأحلام إلى أوهام، فإن بغداد لم تقدم المشروع البديل المقنع، واعتمدت على مقولات الزمن القديم، بل هي في الواقع غارقة في مفارقات داخلية تقعدها عن تقديم البديل. المحك هنا هو إقامة دولة عراقية مدنية مستقلة، لها بندقية واحدة، لا عدد من البنادق (البيشمركة والحشد الشعبي وغيرهما) تلك البنادق المتعددة تؤهل العراق كله إلى فوضى وتسهل الانقسامات، وتقدم الذريعة للكرد للذهاب إلى استقلال ما!
لو أخذ السيد العبادي بموقف شامل في الرد على السيد بارزاني في ذلك اليوم، الذي شهدت فيه الشاشات النقاش غير المباشر بينهما، بالذهاب مباشرة إلى تقديم تصور عن الوطن (العراق الموحد المدني والديمقراطي) المرغوب، لشكّل ذلك على الأقل رداً عقلياً على أطروحات بارزاني، ومن خلال الإعلان عن البندقية الواحدة لعراق واحد (اندماج الحشد الشعبي في الجيش العراقي) وتجريم أي ميليشيات أخرى، تمهيداً لإدماج البيشمركة في ذلك الجيش الموحد والحديث، والطلب الواضح وغير المُرمز أن تغادر كل القوى المسلحة (إيرانية وتركية) الأرض العراقية، وتجريم التعامل مع قوى خارجية في الساحة السياسية العراقية، كما يوضح العبادي مغبة الانفصال الكردي، ليس السياسي فقط ولكن الاقتصادي والعملي، ربما بمثل ذلك الخطاب من السيد العبادي يمكن له ربح الجولة الأولى؛ لكنه أو مستشاريه، تجنبوا الحديث عن المهم، للذهاب إلى العاطفة والتذكير بمآسي صدام حسين، وتجاهل المتطلبات التي يمكن للعراق ككل أن يربح بها، وهي إقامة الدولة الوطنية المدنية الحديثة المتكئة على المواطنة وتساوي المواطنين أمام القانون النابع من الناس! طبعاً هذا التمني هو مثالي؛ لأن المعطيات على الأرض العراقية لا يمكن أن تفرز إلا ذلك الخلط من الشعارات، بعد تقريباً خمسة عشر عاماً من الإطاحة بالنظام السابق، والصراع العبثي الذي تطاول حتى أوهن الجسم السياسي العراقي، مما أهل وزيّن للآخرين؛ خصوصاً طهران، التدخل المرضي في خاصة خصوصيات الوطن العراقي، وتكبيل آلياته السياسية بمقولات شبه خرافية.
ما لدينا من خريطة سياسية اليوم في العراق لا يتيح فرصة ولو ضئيلة للاستبشار، هناك تدخل إيراني واضح، أصبح من المحرمات الحديث فيه أو حوله. كثير من السياسيين في بغداد يرجون رضا طهران اليوم أو وكلائها في بغداد، ومن يخرج عن «السمع والطاعة» تُشن عليه حرب شعواء، ويخرج من دائرة الرضا، لذلك يتسابق كثيرون إلى طهران من أجل الوصول إلى كراسي الحكم في بغداد! تلك الحقيقة بذاتها تقيد إلى حد الإقعاد أي قدرة على الحركة إلى الأمام، أو أي قدرة على احتواء الشريك بشكل صحي، سواء المكون الكردي أو المكونات الأخرى.
على مقلب آخر، فإن التجربة الإنسانية المعاصرة، تقول إن العالم يتوجه إلى «التوحد» لا التشرذم، وكل من حاول الانفصال في العقود الأخيرة بات في الفاقة والفقر والحروب. تلك تجربة جنوب السودان، والصومال، وتجارب أخرى في العالم، حتى في دول أوروبا الحديثة التي خسرت كثيراً من الانفكاك عن المنظومة القريبة منها، بريطانيا مثال واضح في هذا المقام. فذهاب كردستان إلى الانفصال، إنْ تم، هو مغامرة سوف يدفع ثمنها الكرد أنفسهم في ذلك الإقليم وخارجه، بجانب طبعاً الثمن الباهظ الذي سوف يدفعه العراق، إلا إذا كان السيد مسعود بارزاني من العمق والحذق السياسي، بأن يحمل ورقة الاستفتاء للتفاوض على «عراق كونفدرالي مدني حديث وديمقراطي»، ولا طائفي! ذلك أمر آخر يمكن أن يدخله تاريخ بناء الدول، وليس العراق فقط.
الاحتمالات كثيرة، فهناك مساحة من الوقت «لعض الأصابع» بين كل من العاصمة بغداد وأربيل وطهران وأنقرة، ولكنه عض أصابع مكلف، خاصة احتمال أن تذهب بغداد بعصبية للتضييق على الإقليم، والتي لوحت له بالفعل في المطالبة بتسليم المطارات والمنافذ، أو أن تذهب أنقرة أيضاً إلى قفل أنبوب النفط الذي يصل كردستان بالأرض التركية، على ما يكلفها من أعباء اقتصادية، كما أن العصبية التي أظهرتها طهران في إقامة مناورات على حدود الإقليم لا تنبئ عن التفكير العميق في المشكلة، كلها ردود فعل آنية.
السؤال: هل يهدد «نوع من استقلال كردستان العراق» كلاً من إيران وتركيا وسوريا؟ الإجابة عن ذلك قد لا تكون بـ«نعم» قاطعة، فكثير من كرد تركيا هم موالون للنظام، بل في المناطق الكردية التركية صوّت الأكراد بكثافة لمشروع رجب طيب إردوغان، من أجل تفويضه بمركزية أكبر في تركيا، ويشارك عدد منهم في الحكم، ومنهم أعضاء برلمانيون عن الحزب الحاكم. نعم هناك طائفة منهم معارضة، ولكن الدولة التركية محتوية لتلك المعارضة.
كرد إيران لا يبدو أنهم أمام حركة واسعة من الرفض، كما أن كرد سوريا أصبح لهم موقع «فيدرالي» قادم في سوريا المحررة من التسلط المركزي البعثي!
هذا يأخذنا إلى أن المخاوف مبالغ فيها، وما نسمعه من ضجة هي فقط لتعظيم المنافع في المفاوضات القادمة. التأكيد من قبل كردستان العراق، أنه لن يكون لها يد أو «نفس» تشجيعي لأي حركة انفصالية في تلك البلاد مستقبلاً، قد يخفف من المخاوف.
التحدي الحقيقي أن ينجح كرد العراق في بناء «إقليم يحكم بشكل مدني وحديث وديمقراطي»، تلك أمنية ربما يتمناها السذج فقط، أما شكل الحكم القادم في كردستان، فلن يخرج عن تقاسم منافع؛ لأن «فاقد الشيء لا يعطيه»، فهناك كما في أماكن أخرى «التنظيم القبلي والعائلي» يفوق أي تنظيم حديث آخر ويبزه، لهذا فإن الاحتمال في خلق نموذج يمكن تصديره قد يكون غير واقعي أو مبالغاً فيه.
لا بد في نظرتنا إلى السيناريوهات المختلفة ألا نترك التفكير في «جحفل الذهاب إلى الحرب»، وإذا كانت الحرب أولها كلام، فقد بدأ الكلام لا شك، إلا أن تلك الحرب إن قامت فلن تنتهي بتوحيد العراق؛ بل بتقسيمه، وفي غياب حلول سياسية، فإن أمامنا خمسين عاماً على الأقل من الصراع.
آخر الكلام:
يقول الروائي العراقي شاكر نوري، في رائعته «خاتون بغداد»: كثير منا لا يدركون أن هذا المجتمع العراقي عشائري في باطنه، ومدني في ظاهره، نحن على فوهة بركان.
التعليقات