منير الخطيب

كانت تقف وراء حماسة وإصرار الزعيم السوري الراحل عبد الرحمن الشهبندر لتعيين سلطان الأطرش قائداً عاماّ لـ «الثورة السورية» ضد الفرنسيين، رؤية سياسية لمستقبل الكيان السوري الوليد، تتجاوز واقعة الأكثرية والأقلية المذهبيتين، بواسطة مسعاه لفتح ثورة جبل العرب المسلحة على محيطها الأكثري، بهدف صياغة حياة سياسية عصرية، تتخطى التقليد العثماني المبني على مبدأ تجاور الملل والنحل من دون الاندماج في فضاء ثقافي وسياسي مشترك.


ومع انتقال مركز الحياة السياسية من الأرياف إلى المدن السورية، بعد انطفاء الثورات المسلحة نهاية عام 1927، التي حملها المجتمع التقليدي، وتحوّل الفئات الوسطى والمتعلمين والطلاب في المدن إلى حامل لشكل المقاومة الجديد القائم على التظاهرات والإضرابات ومختلف الأشكال السلمية، بدأت تتبلور إحدى أهم قواعد سيرورة التشكّل الوطني السوري وهي: أكثرية سُنيّة قائدة لمشروع دستوري عمومي جاذب لغالبية السوريين، وأقليات مذهبية وإثنية تشارك في ذلك المشروع الدستوري من دون حسابات الأرقام والأحجام الديموغرافية.

لقد وجد الدروز في «جنين الدولة الوطنية» الناشئة مدخلاً مناسباً لهندسة علاقتهم مع محيطهم الأكثري، خصوصاً أن حضورهم في المؤسستين السياسية والعسكرية الناشئتين، كان أكبر من وزنهم العددي. في مرحلة لاحقة، زمن الوحدة السورية– المصرية والاندفاعة الناصرية، وجد الدروز في القومية العربية مدخلاً آخر لتجاوز وضعهم الأقلوي وتقوية علاقاتهم بالأكثرية السُنيّة بواسطة تأكيد أكثريتهم العروبية، فأيدوا بقوة المد الناصري، لذا كان هوى أهل جبل العرب هوىً ناصرياً واضحاً غير ملتبس.

بعد الانقلاب البعثي على الحياة الدستورية وعلى سيرورة التشكّل الوطني الصاعدة، نزعت سلطة البعث عن الدروز مصدر حمايتهم الوطنية بتصفيتها «جنين الدولة الوطنية»، ونزعت عنهم أيضاً مصدر حمايتهم القومية بصفتهم ينتمون إلى الأكثرية القومية العربية، بواسطة تحوّل سلطة البعث إلى سلطة توتاليتارية انبنى نهجها التوتاليتاري على ثنائية تجمع الصخب القومي الإعلامي والأيديولوجي التعبوي والتحشيدي، والممارسات الواقعية المذهبية ما دون الوطنية، حيث أدخلت السلطة البعثية الانقسامات المذهبية والطائفية والإثنية والجهوية في خدمة نهاجيتها التوتاليتارية (وهذا ما لم يتسن للفيلسوفة هنه آرنت أن تراه لتدخل بعداً آخر في تحليل التوتاليتاريات)، هذا من جهة. ومن جهة ثانية قامت سلطة البعث بتهميش واعتقال ونفي رموز الدروز القوميين مثل منصور الأطرش وشبلي العيسمي وحمود الشوفي.

إضافة إلى ذلك، تراكب مسار تغوّل السلطة الشمولي وتآكل الحمايتين الوطنية والقومية للدروز وغيرهم، مع مسار إقليمي مماثل كان محكوماً بصعود فاشيتين جلبتا كل هذا الخراب على المشرق العربي، الفاشية الخمينية والفاشية القاعدية وأخواتها بدءاً من استثمارها في أفغانستان في مواجهة السوفيات. ولم يعد سراً أن استراتيجية الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي تقوم على ركائز عدة من أبرزها: تفكيك الأنسجة الوطنية المشرقية ووضع الطوائف الإسلامية غير السُنيّة إضافة للطوائف المسيحية في موقع سياسي ذمي، وتشجيع نمو التيارات المتطرفة عند السنة، للقول للعالم إن الإسلام السياسي الشيعي مضبوط ومسيطر علية من دولة مركزية، فيما الإسلام السياسي السُنيّ منفلت من الضوابط وإرهابي. وارتكازاً إلى هذه الرؤية الإمبراطورية الإيرانية تم اغتيال رفيق الحريري بصفته رمزاً من رموز الاعتدال السني، ووضع رموز مسيحية ودرزية لبنانية (كميشال عون وطلال أرسلان) في موقع ذمي سياسياً تحت وصاية «حزب الله». واستناداً إلى ذات الاستراتيجية تم الإيعاز لفرقة كاملة من الجيش العراقي في الموصل للهروب أمام عدد محدود من مقاتلي داعش وترك الأسلحة والأموال لهم.

وعلى خطى ذات المبادئ غير الأخلاقية وغير الإنسانية، جرت محاولات حثيثة في جبل العرب لنشر التشيّع وتشكيل ميليشيات محلية تابعة لـ «حزب الله» بعد قيام الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، إلا أنها ظلت هامشية نظراً للرفض الشعبي العميق لها. في الوقت ذاته، أفشل الدروز محاولات السلطة جرهم إلى صدام مع جوارهم في حوران، وحاولوا مع صعود ظاهرة «مشايخ الكرامة» بناء موقف حماية ذاتية لحالة الحياد تلك تجاه الصراع القائم، إلا أن اغتيال قادة الحركة في تفجير جماعي عام 2015، كان يهدف إلى القضاء على ممكنات وفرص تطوير ذلك الموقف.

مع إدراك تلك الاستراتيجية الإيرانية ودورها الوازن في انهيار «الاجتماعات الوطنية» المشرقية، تغدو الممارسات التي رافقت مذابح مدينة السويداء وريفها ليلة 25/7/2018، مثل نقل مقاتلي داعش من مخيم اليرموك إلى بادية السويداء، وسحب الأسلحة المتوسطة والثقيلة من أبناء القرى الحدودية قبل ثلاثة أيام من الهجوم، وقطع التيار الكهربائي ليلة الهجوم، والضغط لتسليم المتخلفين عن الخدمة العسكرية، مجرد تفاصيل في تلك الاستراتيجية.

واليوم يواجه أهل جبل العرب، مع انهيار مرتكزات المسألة الوطنية السورية، تحدّيات جسيمة للحفاظ على حيادهم ومقاومة محاولات فرض الذميّة السياسية عليهم، تتدرج هذه التحديات من حاجتهم إلى السلاح في مواجهة الهمجية الداعشية في خاصرتهم الشمالية الشرقية، بما يحمله ذلك من خطر الارتهان لمصالح الممولين، إلى احتمالات المفاعيل السلبية عليهم الناجمة عن طبيعة الرد الإيراني على التوجه الأميركي والإصرار الإسرائيلي على إبعاد ميليشيات إيران من الجنوب السوري، وكذلك من غموض قواعد اللعبة الدولية في الجنوب، وبلادة المجتمع الدولي والرأي العام العالمي تجاه النكبة السورية. كما يتبيّن لأهل السويداء مع هذا الامتحان الصعب في ظروف شديدة القساوة والوعورة، كم كان مخجلاً وكارثياً موقف الزعامات التقليدية ومشيخة العقل في رفعهما الغطاء عن حركة رجال الكرامة قبل حادثة الاغتيال الغادر.

* كاتب سوري
&