عبدالحق عزوزي
معظم المثقفين العرب يعرفون المرحوم عبدالهادي التازي، وقد عرف بنبوغه المبكر الذي ظهر به وسط نظرائه من طلبة القرويين وشباب مدينة فاس المتنور، وبمواقفه الوطنية الرائدة، وإنجازاته العلمية العديدة، وكذا المسؤوليات السامية التي تحمل أعباءها بكفاية فائقة وخبرة كبيرة، في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والسياسية على مدى أزيد من نصف قرن، ونهض بها في إقبال على الحياة بتفاؤل واستبشار.
وأنصح هنا كل من يشك في دور المرأة العربية في بناء الأوطان والأمصار، بقراءة كتابه «المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي»، فالمرحوم التازي انطلق من مسلّمة مفادها أن المرأة وراء كل تقدم في البلاد، حتى إنه قال إن كتاب ابن البيطار حول الصيدلة، ذكر أكثر من ثلاثة آلاف نبتة صالحة للعلاج، ولكنه أغفل نبتة واحدة مهمة، وهي المرأة! وفي هذا الصدد قام بإبراز العديد من النساء المجيدات اللواتي صنعن تاريخ المغرب، وفي النموذج الأمثل فاطمة الفهرية التي أسست جامعة القرويين، وغيرها من «النجمات» كما يسميهن. يذكر أنه لما أراد المرحوم الملك محمد الخامس أن يؤسس مدرسة خاصة للبنات، في سنة 1946، وقعت واقعة، مفادها أن أحد المشايخ نهض خلال الاجتماع، وأخذ الكلمة وقال «يا سيدي الفتاة أفعى ونسقيها سماً»، فرد عليه الملك محمد الخامس «ما كانت البنت أفعى، بل هي ملاك، وحتى إن كانت أفعى فإن التعليم لها ترياق«.
وفي الكتاب سالف الذكر حدث العلامة عبدالهادي التازي عن العديد من النساء اللواتي طبعن تاريخ البلد كالسيدة خناثة بنت بكار، وهي أول وزيرة في تاريخ الدولة المغربية، وهي زوجة السلطان المولى إسماعيل سليل الأسرة العلوية الذي حكم المغرب ما بين (1082- 1139 هـ)، وكانت في نفس الوقت وزيرته ومستشارته، وكان يرجع إليها في أصعب الظروف التي مرت بها الدولة، نظراً لما كانت تتميز به من ذكاء ودراية بأمور السياسة. وقال عنها «إن للسيدة خناثة دوراً بارزاً في تثبيت اتفاقية السلام والتجارة التي وقعت بمكناس بين الإيالة الشريفة ودولة إنجلترا في شخص سفيرها شارل ستيوارت خلال صيف سنة 1721م. نفس السفير كانت له مراسلات مع السيدة خناثة بخصوص طلب دعمها لهذه الاتفاقية، وبشأن التدخل لدى السلطان للإفراج عن عدد من الأسرى الإنجليز. وتوفيت خناثة بنت بكار سنة 1159 بمدينة فاس ودفنت بها».
ودائماً ما نسمي عبد الهادي التازي بابن بطوطة عصره، وليس التشبيه محض صدفة، فقد سعى الرجل إلى إعادة رسم مخطط جديد لرحلة ابن بطوطة، وإبراز حقائق جديدة حوله.
فهو يعتبره من الشخصيات البارزة واللامعة في العالم، ورحلته ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، ومن ضمنها اللغة الصينية، يقول عنه: «هذا الرجل الذي استطاع أن يجول عالم الأمس وثقافاته، يمثل النموذج الذي يقتدى، في حين يهمل من طرف العرب والرحالة الآخرين، بينما المستشرقون يحتفلون به، ومن أجل كل هذا كان هذا الاهتمام بابن بطوطة». يذكر أنه وقف على لوحة لرحلاته في جزر المالديف، تورد أن من أسباب إسلام أهل المالديف أبو البركات البربري، وحين تأمل اللوحة المعروضة وجدها مزيفة، فطلب العودة إلى اللوحة الأصلية، ووقف على الخطأ، فأخبر المرحوم الملك الحسن الثاني بذلك، الذي وجه إلى رئيس تلك البلاد رسالة لرد الاعتبار إلى ابن بطوطة... وهو يذكر أن ابن جزي ناسخ الرحلة، وقع له خطأ وسهو، عند ترتيبه فصول الرحلة، فقد أثبت خطأ أن ابن بطوطة زار أصفهان عام 727، والأصح أنه زارها بعد ثلاثين سنة عندما كان عائداً.
وكما تمرس التازي على الدرس والبحث، فقد تمرس أيضاً على العمل الوطني، فدخل السجن وعرف العذاب والحرمان، فتوهجت أفكاره وترسخت قناعته، فأضاف إلى الفكر المشاركة وإلى التساؤل الفعل... وبذلك أصبح عبد الهادي التازي شاهداً وحاضراً ومشاركاً، وكان كلما أتى إلى فاس يشرفني في بيتي، كما كنت أدخل غرفته في بيته في الرباط كما يدخلها واحد من أبنائه ونتحدث الساعات الطوال في العلم والأدب والتاريخ والدبلوماسية، وكان يشارك معي في المنتديات التي أنظمها والكتب التي أؤلفها ويشجعني ويوصيني بالإكثار من قول «حسبنا الله ونعم الوكيل» وبالإعراض عن الحساد.
التعليقات