عبدالحق الصنايبي

إن «حالة التوحش» التي ضربت مجموعة من الدول العربية، بعد موجة ما اصطلح عليه بـ»الربيع العربي»، تعطينا فكرة حول حجم المآسي والفوضى التي حلت بشعوبنا والتي كانت «الجزيرة» سبباً مباشراً في إحداثها وتدبيرها ..

عندما أُطلقت قناة الجزيرة في نوفمبر 1996، اعتقد الناس أن «شعلة إعلامية» سطعت من قطر على الوطن العربي المظلم، لتنقله من غياهب الجهل وسيادة الرأي الرسمي الأوحد، إلى جنات الحرية في التفكير والتعبير، وتُعلِّم العرب فضائل الحوار المتحضر وكيفية الاختلاف في الآراء دون عداوة أو خصام. وطبعا تم تقديم القناة على أنها منبر مستقل ومحايد، بدون ولاءات أو تبعيات، فقط شمس للحرية سطعت فجأة على سكان الوطن العربي لتنير عقولهم وتحرر ألسنتهم، وتقربهم من شؤون بلادهم بنزاهة وتجرد وحياد، حتى يصير الحاكم المُدلِّس شفافا أمام المحكوم العارف، فتستقيم أمور الناس وتزدهر البلدان وتسعد الأقوام.

بعد مرحلة «التمكين» انتقلت الجزيرة إلى مرحلة نشر الفكر الإرهابي للقاعدة والإخوان. وتحت غطاء الاختراق والسبق الصحفي والكفاءة المهنية دخل بن لادن لبيوت الشعوب العربية، واحتفل الإرهابيون، أمام شاشات الجزيرة دائما، بسقوط برجي التجارة العالمية في هجمات 11 سبتمبر. وتحت ستار «اعرف عدوك» جلس الصهيوني أمام شاشة الجزيرة حول مائدة الأسر العربية، ثم تحت ذرائع تحرير الشعوب وتحقيق الكرامة والحرية والازدهار، حاولت الدويلة ابتزاز الدول العربية وخيَّرتها بين الخضوع لطموحها السياسي أو أن تُسلّط عليهم لسان دكاترة الجزيرة وضيوفهم وكاميرات مصوريها المتربصين، فدعت للخروج على الحكام والثورة على الأوضاع وبناء الدول من جديد، تارة باسم الله وتارة باسم الحرية والتقدم.

وبعدما كانت قطر جزءا لا يتجزأ من المنظومة العربية والخليجية، أضحت، بسبب سياستها و»قناتها»، مصدراً للقلاقل والفتن والتدخل في شؤون الغير، وتحولت المنصة الإعلامية من فضاء «للرأي والرأي الآخر» إلى قناة «للرأي ولا رأي للآخر»، بعدما تم إخضاعها للقرار السياسي القطري، لتصبح «الجزيرة» جزءاً من الأزمة بعدما كان من الممكن أن تكون على الحياد كما تفترضه ضوابط العمل الصحفي وأخلاقيات الممارسة الإعلامية.

«لعنة الجزيرة» جعلت قطر، بعدما كان بلدا ذا سيادة وقرار سياسي مستقل، تحت رحمة «الحماية» الأجنبية على المستوى العسكري، فيما القرار السياسي احتكره النائب السابق في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة الذي أقسم على الولاء لإسرائيل، أما الشأن الديني فهو بيد الإخوان المسلمين الذين استطاعوا اختراق المؤسسات الحكومية حتى أصبحوا جزءا من منظومة صناعة القرار السياسي القطري.

«لعنة الجزيرة» جعلت، من جهة أخرى، النظام الصفوي يُطْبِقُ على المقدرات الاقتصادية والطاقة من خلال استنزافه المتواصل لـ»حقل الشمال» الغني بالغاز الطبيعي، لتصل هذه «اللعنة» إلى التحكم في الجيش القطري بل وحماية القصور الرئاسية لنظام الحمدين.

لقد أدت الهالة الإعلامية التي استفادت منها الجزيرة في سياقات عربية معينة، إلى تغول الطموحات السياسية لنظام الدوحة من خلال تطلعه إلى توجيه الرأي العام العربي وفق أجندة القيادة السياسة القطرية، وذلك من خلال تبني سياسة خبيثة بضلعين:

الضلع الأول عبر استغلال هامش الممارسة الديمقراطية وتوجيه الرأي العام الوطني لتبني أطروحات التنظيمات السياسية التابعة إيديولوجياً للتنظيم الإخواني. هذا التوجيه السياسي تتم بلورته على مستوى الاستحقاقات الانتخابية من خلال توجيه الكتلة الناخبة للتصويت على الأحزاب الإخوانية وبالتالي المساهمة في وصول تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم لتصبح كيانات سياسية تابعة لقطر.

الضلع الثاني مرتبط بتهييج المواطنين وتأليبهم على ولاة أمورهم، مع استغلال سياقات معينة (الربيع العربي)، من أجل تحريض الشعوب على الانقلاب على حكامها وخلق حالة من «التوحش» والفوضى» تتدخل التنظيمات الإخوانية الموالية لقطر لتوجيهها والركوب عليها ومن ثم الوصول إلى السلطة مع ضمانات بالولاء للدوحة في حالة نجاح منظومة الانقلاب.

إن «حالة التوحش» التي ضربت مجموعة من الدول العربية، بعد موجة ما اصطلح عليه بـ»الربيع العربي»، تعطينا فكرة حول حجم المآسي والفوضى التي حلت بشعوبنا والتي كانت «الجزيرة» سبباً مباشراً في إحداثها وتدبيرها. واليوم، بعد أكثر من عشرين سنة على إطلاقها، داعش والنصرة والإخوان يشكرون الجزيرة، وملايين المكتوين بنار الفتنة والخراب والإرهاب يطالبون بإغلاقها ومحاكمتها بالنظر إلى مسؤوليتها عن قتل وتشريد الملايين، والذين لا ذنب لهم إلا أنهم صدقوا، في يوم من الأيام، أن الجزيرة يمكن أن تكون شعلة الحرية ومنبراً للمصداقية وسبيلهم إلى اكتشاف الأوضاع السياسية والاقتصادية بعيون صادقة وبريئة، ولم يشُكُّوا في لحظة أنهم كانوا ضحية مؤامرة إخوانية صهيونية نسجت خيوطا في المطابخ السياسية لإمارة قطر.