عبدالله بشارة

نجاح مؤتمر اعمار العراق ارتكز على الضرورات الثلاث التي وضعها سمو الأمير كمفتاح للمشاكل، بُعد النظر والتفكير بالعقل والتسامي على كوابيس الزمن، صحيح أن مبادرات الانسانية رافقته طوال مسؤولياته، لكن تسخير امكانات الكويت لاعمار العراق فيه الكثير من روائع الروح الانسانية السامية، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود تم الغزو ليس في معركة خسرناها، وإنما بواسطة آليات لا تعرفها طبائع الكويت، الغدر والسوقية السياسية واغتيال القيم والكذب والخداع، وسنظل نلوم أنفسنا إلى الأبد، لأننا تجاهلنا الشر ولم نهيئ بلدنا ولا أنفسنا لمداهمته، وسنظل نتحمل شروخ الغزو بهدوء، مع ملاحقة الاهتمام بالشأن العراقي، فالدولة العراقية حديثة العهد، جاءت عام 1920، لم تنجح في تجذير الحس الوطني الجماعي، لأنها جاءت من ولايات متباعدة صنعت منها بريطانيا دولة العراق الحديثة.


واستغلت الأحزاب العروبية ضعف التوجه الوطني لتحشر السلوك العراقي الدبلوماسي بالحس القومي العابر لحدود الدولة الوطنية، واستفاد حزب البعث من هذا النوع من الغموض والاضطراب الوطني ليمارس الدبلوماسية العاقة مع دول الخليج وبالذات مع الكويت.
نحن مع العراق جيران الدهر، مسؤوليتنا تحويل الجوار الغليظ إلى طيب المعشر، وحسن التآخي في علاقات قائمة على احترام السيادة وعدم التدخل ورفض التوسع في شراكة اقتصادية استثمارية قائمة على تفاهم حل القضايا بالأسلوب المتحضر على قاعدة الاحترام المتبادل، فكلما زاد العراق استقراراً اتسعت آفاق الاطمئنان في الكويت، وكلما ازدهر العراق توهجت ابتسامات الكويت.
فلا ننسى أن العراق بلد يتشكل من أعراق متباينة في طموحاتها وأولوياتها، مما يجعل الوضع متوتراً في معظم الأحيان، ويدفع إلى قرارات يفرزها الانفعال، مع ضيق صدر في المعالجة بالصبر والتأني.
شهدت شخصياً الكثير من الوقائع التي تحملت قيادة الكويت أثقالها، وعالجتها بالصبر وحسن الوفادة، لا سيما سمو الأمير الذي تحمل كثيراً من العصبية السياسية التي تصاحب الوفود العراقية، منذ انقلاب 1958 المشؤوم وتتصرف وكأنها صاحبة حق في الكويت وشؤونها.


يتجلى سمو الأمير في قدرته على تكييف فنون الاستثمار الاستراتيجي للتعامل مع الجوار المضطرب، وذلك بتوفير تواجد عالمي غير مسبوق على أرض الكويت، جاء من تقدير لمقام سمو الأمير، عارفاً بثقل المسؤولية الدولية، وعالماً بتعقيدات الوضع العراقي، وعازماً على دعم العراق الجديد المتعايش مع واقعه والراضي بجغرافيته والقانع بنظامه البرلماني المدعوم بتوافق شعبي جماعي، حيث يرى هذا التوافق الشعبي في النظام الجديد تجاوباً مع طموحاته.
وأحب أن أشير إلى القيمة السياسية والمعنوية لمؤتمر الكويت، ولما يوفره للنظام العراقي الجديد من اعتراف وترحيب دولي على أمل انسجام النظام المستجد مع قواعد السلوك المستنير.
رأيت سفراء العراق الذين عملوا معي في الأمم المتحدة ضحايا التوتر ليس فقط من وحشية النظام داخلياً وإنما من العزلة الدبلوماسية التي ترتبت من رفض عالمي جماعي لسلوكيات ذلك النظام الانقلابي المتخلف، حيث يرتفع الاضطراب لدى السفراء العراقيين عندما تقدم دول أوروبا مقترح تعيين المفوض العام لحقوق الانسان، فيتسابقون مع دول المعسكر الاشتراكي بقتل المشروع، خوفاً من إثارة اعتراض الأكراد والأقليات الأخرى وحقوقهم، انتهى ذلك العهد وانبعث الأمل الجديد في عراق متغير ساهم سمو الأمير في فتح بوابة القبول العالمي له.
نرى الآن هذا النظام العراقي الجديد يتمتع بمبايعة من أبرز قوى الانتظام والانضباط العالمي ومن أرض الكويت، التي لوث ترابها الغزو اللئيم، فالنظام العراقي الحالي ينعم بشيء لم يحصل عليه سابقوه على كثرة ضجيجهم وملاسناتهم وعلو حنجرة زعمائهم الذين تمردوا على قواعد الاستقرار، فاختاروا المغامرات وضيعوا امكانات العراق الطبيعية في خصومات داخلية، وتآمرات خارجية لم يكن نصيبنا منها متواضعاً.
تدور الساعة ويقف رئيس الوزراء الفاضل حيدر العبادي مردداً أناشيد التقدير، وعازفاً على إثارة حلم المستقبل الذي يطوي آلام الماضي ويفتح صدره للعلاقات مع الجميع، لا سيما دول الجوار وبالذات الكويت.
ليس لي شك في أقوال رئيس الوزراء ونظافة نواياه، وأقدر ثقل المأمورية التاريخية بجعل العراق دولة طبيعية، فلا يجب الوقوف عندما يستهدي بعض المنكوبين بضيق الأفق بشعارات فيها أشواق لطموحات الماضي، فنحن على قدر كبير من الوعي الأمني، وعلى ثقة من صلابة مقامنا، فنواصل مسار العين المراقبة والراصدة لتقلبات الأهواء هناك.
فالعراق يدخل ساحة التقبل العالمي من بوابة الكويت التي دشن فصولها سمو الأمير بقدرة نادرة على اختراق الحساسيات وتصويب رحلة المستقبل.
كلمة أخيرة عن آليات التعبئة للاعمار، ليس هناك أقدر من صندوق الكويت للتنمية وخبرته، فمعه نطمئن بأن أصابع الفساد لن تلمس تبرعات العالم، تحدثت مع بعض الصحافيين العراقيين وكان الجميع مسكونا بالخوف من تسلل الفساد، ومع مراقبة الصندوق ينحسر هذا الخوف.
صار الأمير بحدسه ونقاوة مشاعره ومنظوره المستقبلي مناراً مضيئاً للإغاثة الإنسانية، واحتل مكانه في تاريخ العراق بشهامة التآخي.