بكر عويضة
تردد على ألسنة العقلاء، منذ قديم الأزمان، أن أفضل مكان للماضي هو أن يبقى حيث هو، رهن الماضي. يصحّ هذا المبدأ عند التعامل مع الحال العام، كما إزاء خاص الأحوال. في الحالة الأولى، أن يوضع ماضي تراث الأمم، وثقافات الشعوب، بالمكان اللائق بما تستحق من اهتمام، ليس يعني القطع معها من حيث التبجيل والاحترام، إنما من منطلق ألا يؤدي التواصل المطلوب مع حضارة ما، سادت لقرون، ثم نامت بضعة قرون، إلى انغلاق قوم تلك الحضارة على أنفسهم، فإذا بحاضرهم أسير ماضٍ يعرقل دواليب التقدم نحو مستقبل يحث آخرون كثر الخطى كل يوم على دروب تجدده المختلفة، غير مبالين بأقوام آخرين أسرهم الإعجاب بما حقق أسلافهم وتخلف ركبهم حتى عن مواكبة تألق ماضيهم بحاضر أفضل مما مضى. غريب؟ بلى. إنما، ألم يُسمَع قولٌ صِدقٌ أنذر بأن خالق البشر لا يغيّر ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أم أن السمع حصل، وما أدرِك كثيرون جوهر المعنى؟ ربما.
الشواهد بمشارق الأرض ومغاربها تثبت لمن يسعى للتأكد، أن ما مِن قومٍ ظلوا أسرى ماضٍ تولى أفلحوا في نفض غبار عرقل قطار سيرهم إلى الغد الأفضل. في سياق ضرورة تغيير ما بالنفس كي ينصلح الحال، يمكن القول إن تغيّر أوضاع الناس بأي مجتمع يتطلب، ضمن مطالب عدة، وقف التغني غير المجدي بمجد لم يعد قائماً، والكف عن التلذذ ببكاء ألم ما ولّى من أوجاع وأحزان. يكفي إلقاء نظرة على أحوال شعوب تجرعت كؤوس مُرّ الهزائم خلال ثاني حرب كونية، كي يتضح كم هو ضروري تحرر النفوس من أسر إحساس الهزيمة ومرارتها لانطلاق البناء من جديد. ترى، لو أن شعب اليابان، أو الألمان، مثلاً، استسلموا للهزيمة في داخلهم بعدما استسلم جنرالاتهم في الميدان، هل كان بإمكانهم المضي قدماً، وتحقيق ما بلغوه من تقدم؟ الأرجح أن الجواب واضح كما وضوح شعاع الشمس لكل عين ترى.
كذلك الأمر في خاص الأحوال. صحيح أن ماضي الشخص سوف يظل جزءاً من الذاكرة، طالما بقيت تعمل، لكن الصحيح أيضاً أن السماح لأي جزءٍ أليم من ماضٍ شخصي ذهب بعيداً، كي يحكم نظرة المرء للحياة ككل، وللناس أجمعين، سوف يترك أثراً سلبياً، وربما مدمراً، على مجمل شخصية أي فرد، ومن ثم السلوك تجاه الآخرين، سواء في البيت، أو المدرسة، أو العمل. يحدث هذا دائماً، وفي مراحل مختلفة من مشاوير الحياة. يحدثني صديق أنه كان صبياً يسبح عندما كاد يغرق، وإذ فتح عينيه على الشاطئ بعدما أنقِذ، سارع إلى أخذ نفس عميق ثم انطلق نحو البحر، فغطس في الماء دقائق وطلع يقول للأصدقاء، مبتسماً: لو لم أفعل ذلك الآن سأخاف قطرات المطر إذا تجمعت في الشارع. حقاً، لقد صدق.
بيد أن ثمة ما قد يستعصي، أحياناً، من آلام الماضي على كل نسيان، حتى لو أمكن للمرء أن يتجاوز ويمضي بلا التفات إلى الوراء، فينجح ويحلّق في فضاء دراسته، ثم عمله، لدرجة قد تجلب له الغيرة أو الحسد. لعل الأسوأ بين حالات الماضي الأليم، هو تعرض القصّر للتحرش الجنسي، ثم الأسوأ أكثر كثيراً أن يتم اعتداء أو اغتصاب من قبل بعضٍ هم أهل، أو جيران، أو أصدقاء أسرة، أو معلم مدرسة، أو مدرب في ملعب. أولئك أفراد دخلوا قلب القاصر من منطلق الثقة بهم، فاستباحوا الجسد الغض وأباحوه لغرائزهم المقززة، وما همهم ماذا سيحصل للصبي، بدناً ونفساً، عقلاً وروحاً، حاضراً ومستقبلاً. إلى أي درك من قبح البشاعة يمكن لأنانية الغرائز أن تنزل؟ وجدتني أتساءل إذ أبصر، وأسمع، بكاء أحد الضحايا، أمام كاميرات التلفزيون الخميس الماضي. الضحية واحد ممن اعتدى عليهم مدرب كرة القدم البريطاني السابق، باري بينيل. لم يستطع الذي هو الآن رجل يبدو كامل الرجولة، أن يحول بين آلام ماضيه ولحظة الحكم على مغتصبه، فانهمر الدمع. تُرى، هل يدرك كل من يحرك، أو تحرك، ألم ماضٍ دُفِن وتُرِك رهن الماضي، خطر سوء فعل كهذا وتأثيره على حياة أي شخص؟ كذلك الحال في الشأن العام، متى سيدرك كثيرون حقيقة أن مجرد التغني بمجد الماضي لن يغير واقع الحاضر، ولن يصنع الغد الأفضل؟
التعليقات