سليمان عبدالمنعم 

حين يتأمل المرء ما يحصل في سورية اليوم وهي تبدو كرقعة شطرنج دموي تمارس فوقها القوى الأجنبية (عالمية وإقليمية) لعبة التقاطعات والنفوذ، فإن السؤال الذي يقتحم الذهن هو ألم يكن ممكناً، ولو بأي حد أدنى، أن يحل العرب مشكلاتهم وأزماتهم بأنفسهم بدلاً من دعوة الأجنبي أو استدعائه لنفسه بقوة الأمر الواقع أو بسند القرارات الدولية؟

أليس هذا ما عبّر عنه باستعلاء وشماتة وزير الخارجية التركي مولود أوغلو مخاطباً الأمين العام لجامعة الدول العربية في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد في ألمانيا منذ أيام قائلاً: «نحن في سورية لأن نظامكم العربي أضعف من أن يفعل شيئاً»؟ جزء من مأساة (وربما ملهاة) الحرب الأهلية التي تدور رحاها في سورية اليوم، مثلما دارت وتدور حروب وصراعات أهلية مشابهة في ليبيا واليمن والعراق، أنها تطرح بمرارة وعنف (وفنتازيا سوداء) فكرة العروبة. إيقاظ هذه العروبة الغافية من سباتها، المحبطة (بفتح وكسر الباء معاً)، بفعل إخفاقاتها المتواصلة هو أحد أسئلة اللحظة الراهنة، بل لعلّه السؤال الوجودي الأكثر إلحاحاً في بلاد العرب اليوم.

بحسابات المنطق والواقع كان يجب أن يكون العرب هم الطرف الأول الفاعل في الأزمة/ المأساة السورية. ربما يكتم البعض سخريته من استخدام كلمة «المنطق» في مناقشة الأحوال العربية. وربما يعترض آخرون باعتبار أن ثمة ما يكفي من التناقضات العربية التي تجعل من الحل العربي للأزمة السورية ضرباً من الرومانسية السياسية. ولكن ألا توجد تناقضات أيضاً، أكثر حدة، بين المواقف الأجنبية الأخرى؟ هل هناك مشترك حقيقي وجوهري بين مواقف إيران وأميركا وروسيا وتركيا أم أن التناقضات تلحق أيضاً بهؤلاء ولكنهم على رغم ذلك ذهبوا إلى سورية ولكل منهم بوضوح أجندة نفوذه ومصالحه ومنطلقه الخاص؟ أما بحسابات الواقع فإن الحل العربي وليس الإقليمي أو التدويلي كان ينبغي أن يكون ضرورة لا خياراً مهما اصطدم بعقبات وتعقيدات. فالآخرون لا ينشغلون بسورية إلا بحثاً عن موطئ قدم خارج حدودهم ومنطقة نفوذ وقواعد عسكرية أما العرب فانشغالهم بسورية هو انشغال وجودي يرتبط بجغرافيتهم السياسية وبوحدة دولهم القطرية وقد مرت عليهم منذ عامين مئوية «سايكس بيكو». ليس ثمة ضمانة واحدة ألا تتطاير أصداء وارتدادات تفتيت الدولة السورية إلى حدود دول عربية أخرى. ومن الصعب الاعتقاد بأن «أفغنة» سورية ستبقى محصورة داخل حدودها التي قد لا تصبح في الغد القريب حال نجاح «الأفغنة» حدوداً بقدر ما ستصبح معابر وفجوات وثغرات.

كانت العروبة وما زالت على رغم كل ما يُقال عنها وفيها هي الحقيقة الاستراتيجية والسياسية والجغرافية والتاريخية والمصالحية وحتى البيئية التي توجب على العرب أن يكونوا هم الطرف المعني بأكثر من أي دولة أجنبية في هذا العالم بما يجري في سورية. مشكلتنا، مشكلة سورية كما كل بلد عربي آخر، أن شعورنا بالهزيمة النفسية، وقد سبقها في الواقع مجموعة هزائم أخرى حضارية وعسكرية وسياسية، جعلت البعض منا لا يطيق سماع كلمة العروبة، والبعض الآخر يتندر بها ويسخر منها. وكلها تجليات وإفرازات لحال الانهزام النفسي في بلاد العرب. انهزامٌ نفسي مصحوب بأعراض الالتباس واختلاط الرؤى. نعم، لا أحد ينكر أن كل المشروعات والتجارب العربية الوحدوية أو التكاملية أخفقت ومُنيت بالفشل حتى صارت مضرب الأمثال ومبعث استعلاء وزير الخارجية التركي في مؤتمر ميونيخ للأمن، على رغم أنه بخلاف استعلائه وشماتته لم يقل سوى الحقيقة. لكن ما يعجز كثير من العرب عن إدراكه، وهذا بذاته لغز يحتاج إلى تفكيك، أن فشل المشروع العربي سواء بصيغة الوحدة أم التكامل أم التضامن لا ينفي فكرة العروبة ذاتها. ثمة فارق إذن يريد البعض أن يطمسه، عن قصد أو بغير قصد، بين المشروع والفكرة. فلنقل عن فشل المشروع العربي، أي مشروع، ما شئنا، لكن لا يمكن إقناع العرب، هكذا في لحظة انهزام ويأس، أنهم لم يعودوا عرباً. ربما يشبع غرورنا التاريخي أن نوقظ من جوف الماضي البعيد جداً ذكريات فرعونية أو فينيقية أو آشورية أو غيرها. لكن هذه لم تعد سوى أعمدة وتوابيت ومقابر لأناس ماتوا منذ آلاف السنين. الحقيقة الحيّة وليست الميتة هي أننا اليوم عرب عاربة أو مستعربة نجسّد مجموعة حقائق جغرافية وسكانية ولغوية وتاريخية، ومصالحية. نعم فشلنا في تحويل الفكرة العروبية إلى مشاريع اقتصادية أو تكتلات أقاليمية أو اتحادات سياسية لكننا ما زلنا عرباً. نعم بيننا مسلمون ومسيحيون، سنة وشيعة، أكراد وأمازيغ وطوارق وأفارقة، لكن ذلك كله صهرته الجغرافيا المتداخلة الممتدة، واللغة الواحدة، والذاكرة التاريخية، ودماؤنا التي ربما انحدرت من مشارب شتى، لكنها امتزجت في حروب خضناها سويّة وصلات تزاوج مشبوبة بالشوق الإنساني أثمرت بشراً عابرين للأعراق والطوائف ومنهم اليوم كثيرون في بلاد العرب وإن كنا لا نراهم. حتى الخيبات الواحدة اقتسمناها معاً، فاستغلال ثرواتنا قديماً وإهدارها حديثاً عانى منها الجميع بلا تفرقة. هل تصبح العروبة بعد كل هذا وهماً لأن ثمة لعبة كبرى ما تدور لكي تفرّق السياسة ما جمعته الطبيعة والجغرافيا واللسان والتاريخ؟ وبافتراض أن شيئاً من كل هذا لم يجمع العرب، لنفترض أنه خرافة، ألا تكفي وحدة المصالح والمخاطر وحدهما لأن نخترع العروبة اختراعاً؟!

ليس عيباً أن يكون هناك شعور عام بالانهزام النفسي لا تخطئه العين لدى معظم العرب. العيب والمشكلة معاً أن يتحوّل هذا الشعور بالهزيمة النفسية إلى مغالطات وأوهام تراودنا كما لو أنها حقائق ومسلّمات، ليس فقط لأن الشعور بالانهزام لا ينفي واقع أن العرب ما زالوا أمة حيّة تمتلك من الإمكانات والقدرات الكثير، ولكن أيضاً لأن التاريخ لا يثبت على حال، وأن له ديناميته ودهاءه، والشعوب تدرك في لحظات الإفاقة والوعي بأن تغيير الأسباب كفيل بالحتم بتغيير النتائج. إن لحظات الاكتمال على رغم ما فيها من زهو وتفوق واستقواء، لا يمكن إلا أن تكون بذاتها بداية التراجع والنقصان. هذا هو درس التاريخ الذي لم يرد عليه استثناء واحد حتى اليوم، عبر تأمل حركة صعود الإمبراطوريات وأفولها. ليس معنى هذا أن نخلد إلى النوم ونشد غطاء التاريخ انتظاراً لأن يمارس هذا التاريخ دوراته المتعاقبة، لكنه يعني أنه حتى في لحظات الضعف يجب أن نظل قادرين على استخلاص الدروس وألا تجرفنا الالتباسات والمغالطات.

في هذا الحاضر العربي الملتبس ثمة سؤالان جديران بالنقاش، أولهما لماذا كان شعورنا بالانهزام النفسي؟ والانهزام غير الهزيمة لأنه يتم بفعل الذات أكثر من فعل الغير. ثم بماذا نفسر حال الارتداد على العروبة من جانب نخب عربية كانت حتى الأمس القريب من دعاة العروبة ومناصريها؟ عن السؤال الأول بدا الانهزام النفسي نتيجة غير مستغربة بوصفه حاصل جمع كل الهزائم الأخرى التي مُني بها العرب في تاريخهم الحديث. ربما سيحتاج العرب وقتاً طويلاً للتخلص تماماً من الأعراض الجانبية المستدامة لأربع أحداث مفصلية مزلزلة تمثل جذوراً لحال الشعور بالانهزام النفسي هي هزيمة حزيران (يونيو) 1967، واجتياح إسرائيل لأول عاصمة عربية هي بيروت في 1982، ثم الغزو العراقي للكويت 1990، وانتهاء بارتداد الثورات العربية في 2011 على نفسها في مشهد عبثي «سوريالي».

هنا تبدو المقارنة لافتة مع الحال الأوربية، إذ احتاجت أوروبا لنحو عشر سنوات فقط، لكي تتخلص تماماً من تناحرها واقتتالها في الحرب العالمية الثانية ولتبدأ رحلة إعادة اكتشاف الذات من جديد باتفاقيات الفحم والحديد والصلب كأول نواة لتكامل أوروبي حقيقي. كان طبيعياً إذا أن يؤدي انهزامنا النفسي إلى حال من فقدان الثقة بالنفس حتى أصبح ما كنا نعتقد أن فيه سبب قوتنا (العروبة) هو بذاته مصدر ضعفنا. وهذه مفارقة تبدو كالكوميديا السوداء تستعصي على الفهم والتفسير.. حال متفاقمة من الالتباس واختلاط الرؤى. وهنا يظهر السؤال الثاني في شأن تفسير حال إنكار العروبة والتندر بها.

نفهم بالطبع أن يعبّر عن سخطه من العروبة شاعر مثل نزار قباني أو مظفر النواب، أو فنان مثل دريد لحام، وغيرهم ممن أبكونا وأضحكونا على التناقضات العربية لأن الشعر والفن والأدب قوالب جمالية نقدية ساخرة وليست أطروحات فكرية أو سياسية. المشكلة أن بعض هذه الأطروحات الفكرية والسياسية الآخذة في الانتشار باتت تنتقد بضراوة فكرة العروبة بوصفها فكرة قومية، يرى البعض أنه يلحق بها ما في الانتماءات والنزعات القومية الأخرى من تعصب وشوفينية وتطرف وانغلاق وكراهية الغير. هذه رؤية ربما تنطلق من تجارب تاريخية سابقة مؤلمة ومدمرة اعتقدت في التفوق العرقي والقومي للبعض على البعض الآخر. وربما تبدو متأثرة بالتجليات المعاصرة لأحزاب اليمين القومي المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا وأميركا. لكن التعميم غير جائز منطقياً وغير منصف واقعياً. فصعود التيارات القومية المتطرفة في أوروبا وأميركا أمر لا يمكن فصله عن ظواهر تنامي الخوف من الإسلام، وانتشار الإرهاب، وتزايد موجات هجرة الأجانب إلى المجتمعات الغربية. لم يقل أحد ولم يثبت بأي دليل تاريخي أن العروبة كأيديولوجية سياسية، وبخلاف موقفها من إسرائيل، تبنت خطاب الكراهية أو الانغلاق أو العنصرية، لكنها انفتحت على الآخر في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، بل وتواصلت مع التيارات الغربية الفكرية والإنسانية المناصرة لقيم الحرية والعدل والإخاء في داخل أوروبا وأميركا. ولم يكن عداء العروبة موجّهاً بحال من الأحوال إلى الشعوب الغربية بل اقتصر على الحكومات والسياسات الغربية التي أنكرت الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والحقوق العربية عموماً.

المقولة/ المغالطة التي تنضح بها الكثير من الكتابات هذه الأيام عن أن العروبة فكرة عنصرية منغلقة، لم تجلب لنا سوى الفشل، تحتاج إلى نقاش وتفنيد. هذه المقولة/ المغالطة تنطوي على مقدار من الخطأ والخطورة معاً. مظهر الخطأ أنها تخلط بين المشروع والفكرة. ومبعث الخطورة أنها تشي بالانهزام النفسي، وهو أخطر من الهزيمة العسكرية. فألمانيا واليابان لحقتهما هزيمة عسكرية نكراء لكن إرادتهما هي ما صنعت الفارق أخيراً. ويا له من فارق.