علي القاسمي 

أزماتنا الفكرية والأخلاقية وتنامي ثقافة الشك وتوزيع التهم وقذف الآخرين تنشأ من مربع بشري يدعى «مرض القلوب»، والمنتمون لهذا المربع يعانون من مرض عقلي في الأساس، لكنه مرض مستتر لا يمكن كشفه بسهولة في ظل أن الحبال الصوتية فعالة، والجماهير تلاحق دون تدقيق وتفكيك للمتوفر من الأسطر والنصوص، وتحت وقع الإيمان أن المظاهر هي العنوان الأبرز في تحديد هوية الشخص. لم يرتفع مؤشر مرض القلوب إلا حين أغلقت بوابة التفكير تماماً، وأصبحت القضايا القابلة للطرح والتناول والتفصيل والتأصيل والخلاف والاختلاف قضايا يقينية بحتة غير قابلة للتحاور والتحليل، لم يرتفع مؤشر المرض إلا حين استوعبنا بمعية التلقين، أن الاختلاف شذوذ غير مستساغ للسائد والمألوف وأن الحوار العقلاني مسألة فيها نظر.

مجتمعنا يتحول تجاه أي طرح فكري مختلف أو مخالف للمألوف الحالي لمجتمع هجومي محتقن كاره مصنف متبرئ، على رغم أن الحكاية برمتها لا تستدعي أن نكون على هذا القدر من التوتر والوصاية والاختلال في الكلمات والتناقض في المواقف، التوتر يقف على هرمه «مرضى قلوب» وصلوا لقناعة تامة بأن عقولهم شاملة جامعة للعلوم والمعارف والحكم والفوقية الممقوتة، ومتى ما حدث وأن وصل بهم أحد لمساحات التعرية وجذبهم لمناطق المناظرات وإلقاء محتويات الفهم والوعي، اتجهوا لما يمكن اعتباره تصفية عشوائية تحدث ضجيجاً موقتاً، لكنها لا تؤتي ثماراً على المدى البعيد، وتعمق في الجيل المتعطش للمعرفة والمهتم بالأسئلة والأجوبة العميقة، حقيقة أن قضايانا الفكرية والفقهية تسير في صندوق مغلق يسمح لفرق ناجية بالأخذ منه، ولكن لا يجوز أن نعرف لماذا أخذت هذه الورقة وتركت الورقة الأخرى.

سيستمر مرضى القلوب في طرحهم وشكوكهم وفقدان اتزانهم طالما كان تعاملهم مع الرأي الآخر أشبه بمشروع حرب، ومتى ما كانت يشتعل في عقولهم قيح العصبية والنظر بدونية لمن لا ينتمي إليهم، وكذلك إفرازات سوق الفضائح التي تكشفها تغريدة مريضة وتطبل لها تغريدة أخرى، ولو لم يكن من فضائل وسائل التواصل إلا أنها شرحت لنا بدقة كيف يسير مرضى القلوب بالوعي الشعبي ويجاهدون لإغلاق ملفات قابلة للبحث، والتضييق في ما هو يسير، لأننا رضعنا الشك أكثر من اليقين، وبنينا ثقافتنا الدينية وسياجنا الفكري على أراء تنحاز للتشدد أكثر من انحيازها للاعتدال والوسطية.

ولو رغبنا السباحة في بحر الأسباب التي أدت إلى انتشار مرض القلوب لانتهينا إلى أن ثمة انغلاقاً فكرياً مورس علينا سنوات طوال، وجاء عصر الانفتاح البحثي والمعلوماتي والشرعي ليناقش مناطق محرمة اللمس كالتقديس والتعطيل العقلي، ونواتج التلقين وأسرار انجذابنا العاطفي للظواهر الصوتية والتوزيع المبطن للفرق الناجية، كل هذه المناطق كانت مستعصية النقاش في زمن فائت لأن الحروف تكتب بحبر واحد، ومع هذا الحبر صرنا نُستفز سريعاً ونمارس مأساة التناقض الفظيع ما بين السلوكيات والأقوال.