عبدالحق عزوزي
لا غرابة في أن يتناول مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في مؤتمره لهذه السنة موضوعاً من المواضيع الهامة والهادفة التي تبني البلدان وتوصل شعوبها إلى بر الأمان، وهذا الموضوع هو موضوع المستقبليات، ولا غرابة في ذلك فمركز الإمارات أخذ على عاتقه منذ نشأته مسألة التأصيل لكل المواضيع التي تهم البلد والأمة والقيام من دون كلل بممارسات فكرية وذهنية تعلو ولا يعلى عليها. وحُق لمركز الإمارات أن يقوم بهذا العمل، لأنه مؤسسة بحثية واستشرافية تعج بالباحثين والخبراء، وهو يستفيد من وضعه وإشعاعه وتجربته ونزعته العلمية ليبني تحت إشراف مديره البحاثة الدكتور جمال سند السويدي، نتائج استشرافه للمستقبل على البحث عن الحقيقة، وتحليل الماضي والحاضر واستخدام القياس والاستقراء لرصد كل الاحتمالات والمشاهد الممكنة للزمن الآتي. فهناك تهديدات نووية تتربص بالبشرية، وثمة آثار الثورة البيولوجية، وهناك الجمرات المذهبية والإثنية والعرقية المتناثرة هنا وهناك، كما أنه توجد تهديدات تتعلق بنقص المياه والطاقة والغذاء، وهناك الهجرة بين مناطق العالم، وهناك تحديات سلطات العولمة الجديدة والإرهاب العابر للقارات، وهناك المشاكل الاقتصادية العالمية، وهناك مشاكل جيو سياسية، وهناك تداعيات بسبب انهيار النظام القديم ووصول قوميات جديدة في بعض البلدان.. وهذه المواضيع وغيرها معقدة وتشكّل تحدّيات مستقبلية ذات طابع جماعي، ولا يمكن الخوض فيها إلا بالعلم والدراية، والعلم بوصفه حرفة حقيقية.
وفي هذا الصدد من أراد أن يفهم حقيقة العلم والبحث العلمي وكيف يمكن أن تكون نتائجه دقيقة لتصبح في خدمة صانع القرار، فليقرأ محاضرتيْ العالم الألماني ماكس فيبر(1920-1864) اللتين ألقاهما قبل موته: «العلم بوصفه حرفة» و«السياسة بوصفها حرفة»، فقد ألقاهما في شهور الاضطراب والثورات التي تلت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وسقوط القيصرية، وشيوع الفوضى والصراع على مستقبل المجتمع والدولة بين العديد من الأطياف السياسية المتنافسة فيما بينها في مجال عام يعج بتحولات جذرية، لأن النظام القديم كان قد انهار ومحددات الفترة المقبلة لم تظهر تجلياتها بعد. وحتى القواعد السياسية والإدارية والعسكرية للدولة كانت قد تلقت ضربات عنيفة، واحتل الشباب العائد من مختلف جبهات الحروب الميادين والأماكن العمومية، مشيدين كومونات وسلطات في ما بين برلين وميونخ. من أهم ما جاء في تلكم المحاضرتين أن بناء الدولة الأوروبية الحديثة يجب أن يقوم على ثنائية العلم والعمل السياسي. وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة. فبدون العلم، أي المعرفة، فإن التقنية والتقدم والاحتراف تنتفي داخل المجال العام للدولة، وبدون عمل سياسي حقيقي خاضع لأدوات العقل والثقة بين الحاكم والمحكوم، فإن إدارة الشأن العام ستفشل وتضيع بذلك مصالح الجميع. والعلم لا يمكنه أن يسيس، بل الحيادية والموضوعية هما أساسا التقدم العلمي الصحيح. فإذا سيس العلم ولم تعط له الاستقلالية فإن نتائجه المرجوة تبقى مبتورة محدودة، تكرر المعلومات ولا تنتج، تقلد ولا تجتهد، وهنا الكارثة.
الدراسات المستقبلية هي علم وفن، وتكمن أهميتها في كونها ترسم خريطة طريق ذهنية وخريطة للمستقبل تعين دوائر القرار وصنّاعه على تصوُّر الإشكاليات والمخاطر والمحاسن وكل الاتجاهات الممكنة الممتدة عبر الزمن المتوسط والبعيد والمحتمل بروزها في المستقبل، وعلى تمثُّل الأحداث غير المتوقعة (Wild Cards) والقوى والفاعلين المحركين للأحداث (Driving Forces).
ولعمري ما نجحت الدول الغربية وما بنت سياسات عمومية حكيمة إلا لأن علماء الاستشراف والمستقبليات مكنوا من كل أدوات العمل الموضوعية، وصرفت من جيوب دافعي الضرائب ملايين الدولارات لتمويلهم وتمويل المختبرات ومراكز الأبحاث وإنجاز الدراسات، ومنحوا حينئذ لصاحب القرار الذي يعيش لأجل البلد لا من السياسة كل السيناريوهات الممكنة والحلول الجاهزة لوضعها في إطار قوانين وسياسات عمومية حكيمة. فالدراسات الاستشرافية تساعد صانع القرار على الاختيار المرتبط بالحقائق والتنبؤ العلمي بما سيكون عليه المستقبل، مع الاستعداد الأمثل له بتحديد كيفية بلوغه من خلال قرارات وبرامج، وسياسات عمومية دقيقة لا تقبل الارتجال ولا الشعبوية ولا الكلام الكثير كما هو دأب بعض السياسات العمومية العربية التي تعتمد على المظاهر أكثر من الحقائق. فالتخطيط والإعداد الذهني يجب أن يأخذا مكانهما في الحقيقة، وهذه هي قاعدة نجاح كل السياسات العمومية في البلدان المتقدمة.
التعليقات