محمد المختار الفال
شهدت مناطق السعودية نهضة عمرانية وتعليمية واقتصادية كبرى في العقود القريبة الماضية، على تفاوت نصيب كل منطقة، ومن الجهات التي حظيت بقدر وافر من الخدمات: القصيم ومحافظات سدير وشقراء، إذ امتدت شبكة الطرق وخدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والتعليم والصحة، فغطت مدنها وقراها.
ولكن بعض المناطق فاقت غيرها، باستغلال «ميزتها النسبية»، فاستثمرتها وروجت لها لتكون «علامة» دالة في سوق المنافسة، ومنطقة القصيم استغلت ميزتها النسبية، بحيث تتمتع بموقع متوسط تمر به خطوط المواصلات وشبكة الطرق الرابطة بين أجزاء الوطن، من غربه إلى شرقه، ومن شماله إلى جنوبه، مرورا بالعاصمة الرياض، كما وظفت ميزتها في وفرة المياه والتربة الخصبة وتمرس الإنسان بالزراعة، فتحولت إلى «مصدّر» للتمور والخضراوات والفواكه، وعمقت هذا التوجه وساندت الجامعة بفتح المجال أمام أبنائها، ومن يلتحق بها من طلاب المناطق الأخرى، للتزود بعلوم الزراعة والبيطرة، وبرع بعض أبناء المنطقة في هذا المجال، فأصبحت منتجات مزارعهم تلبي حاجات الأسواق المحلية وترتاد الأسواق الإقليمية وتتطلع إلى المنافسة في الاسواق الدولية، وأدهشني «عاشق النخلة» عبدالعزيز التويجري (أبو عبدالله)، بموسوعيته وإحاطته بشؤون النخل، وكل ما يتعلق به من ثمرات ومنافع غذائية ودوائية، يتحدث عن النخل وسلالته وطرق هجرته ومواسم عطائه وحاجاته، كمن يتحدث عن «محبوبته»، فهو يعرف همس النخلة وجهرها، تعكر مزاجها وصفائه، أيام انشراحها وليالي عبوسها، هذا «المزارع» المثقف أكسبته النخلة بعض صفاتها، فهو صبور خدوم لا يتردد في ما ينفع مجتمعه، يملك طاقة إيجابية تشع في محيطه ويمتد تأثيرها إلى من يتصل به، يشعرك بأنه يستمتع بنقل تجربته ومعارفه عن النخل والزراعة وتطورهما إلى الآخرين بأريحية لا تتفق عادة مع طبيعة المنافسة والرغبة في الامتياز. وهو نموذج واحد لكثيرين من أبناء هذه المنطقة الذين التقيتهم في مجال نشر المعرفة وترقية التعليم وتطوير التجارة وتوسيع دائرة الاستثمار وتعميق الخدمات الإنسانية في المجتمع، وجعلها جزءا أصيلا من مسؤوليات أهل المال في كل منطقة.
اطلعت على نماذج مشرفة لعمل بعض رجال الأعمال من أبناء المنطقة خدمة لمنطقتهم، خلال «الرحلة السنوية» التي يتبناها وينظمها رجل الأعمال والصيرفة إبراهيم السبيعي (أبووليد)، الذي يمثل نموذجا كريما لأهل المال العاملين على تجسير العلاقة بين أبناء الوطن، وتمكينهم من الاطلاع على ما تمتاز به كل منطقة، ومد جسور التعاون بين مؤسسات القطاع الخاص ومناشط العمل الخيري، وتسليط الضوء على الأعمال الجليلة للمخلصين من أهل كل منطقة، فلا تقف نشاطاتهم عند المصالح الخاصة بل تتجاوزها إلى النفع العام، وفي رحلة هذا العام، الأسبوع الأخير من شباط (فبراير) الماضي، نظم أبو وليد رحلة ضمت نخبة من أبناء الوطن في مجالات مختلفة إلى منطقة القصيم ومحافظات سدير وشقراء، وانتهت في متنزهات الثمامة على مشارف العاصمة الرياض، وجمعت الرحلة ما بين متعة الترفيه وثمرات التعارف وفوائد الاطلاع على ما تمتاز به كل منطقة، في جو من الأخوة وفيض الكرم الذي غمرنا به الأهل في عنيزة وبريدة والرس وحوطة سدير وروضة سدير وشقراء والرياض. التنمية المدنية؛ المباني الحديثة الراقية والجسور المعلقة وشبكات الطرق المنتشرة والمياه والصرف الصحي وقنوات الري الممتدة، أخذت حظها الوافر من الاهتمام في المناطق التي زرناها بدرجة لافتة، توفر الرفاه لأهلها، ومن يعيش بين ظهرانيهم، لكن ما لفت نظري، وأرى أنه يستحق الإشادة والتقدير الكبيرين هو عناية أبناء عنيزة، من رجال الأعمال، بالمؤسسات الإنسانية، على تنوعها، ومراكز الإشعاع العلمي والمعرفي، بحسب ما تقدمه من خدمات، حتى أصبحت هذه المدينة الأنيقة جديرة بأن تكون «الإنسانية» صفة لها وعنوانا عليها، كما عبر محافظها النشط عبدالرحمن السليم، ورئيس مجلس غرفتها التجارية محمد الموسى، الذي ينسق التعاون المثمر ما بين المسؤولين ومجتمع رجال الاعمال.
ومن النماذج الدالة على اهتمام الأهالي بالتنمية البشرية، «مدينة عنيزة الإنسانية»، التي تضم 11 متخصصا في تقديم الخدمات لطالبيها، بعضها قائم وبعضها قيد التنفيذ والدرس، وكلها بإنفاق من أبناء عنيزة من أهل المال والثراء القائمين بواجب المسؤولية الاجتماعية نحو أهلهم ومدينتهم، وهي: مجمع الجفالي للرعاية والتأهيل، ومركز التميمي للتوحد، ومركز الشيخ السعدي للطفولة والتدخل المبكر، ومركز التمكين الوظيفي، ومركز السمع والكلام، ومستشفى التأهيل الحركي، ومركز التأهيل الاجتماعي، ومركز متلازمة داون، ومركز الإعاقات الشديدة (إناث)، ومركز الإعاقات الشديدة (ذكور). ومن المشاريع القائمة: مستشفى الشفاء لكبار السن والرعاية بعنيزة، الذي بنته أسرة السبيعي، ومجمع علي الجفالي للرعاية والتأهيل، الذي بني على 60 ألف متر مربع ومسطح مبانٍ 18.400 متر، بكلفة تفوق الـ42 مليون ريال، ويضم المجمع مركز التقويم والتشخيص، الذي يقدم خدمات التقويم الطبي والتربوي والمهني، وفحص قدرات الكلام والحركة، ومركز التأهيل المهني للمعوقين ( ذكورا وإناثا) ويعمل على تطوير قدراتهم وتحديد ميولهم وحفزهم وتدريبهم مع مساعدتهم على توفير العمل، بحسب الفرص المتاحة، والمجمع يستقبل حالات كثيرة تشمل: الشلل الرباعي (بكل درجاته)، إصابات العضلات، ومتلازمة داون، والأمراض العصبية التي تؤدي إلى خلل الحركة، وأمراض العظام، وإصابات الحبل الشوكي، والروماتزم، وآلام الظهر والمفاصل، وغيرها من الأمراض المؤدية إلى الإعاقات. ومركز التميمي للتوحد، الذي تتجاوز كلفته الـ21 مليون ريال ويستوعب 350 حالة، إلى جانب العيادات الخارجية التي تستقبل 400 حالة سنويا، والمركز قائم على مساحة 14 ألف متر ومسطح مبانٍ 7500 متر، ويقدم خدمات التشخيص الطبي والنفسي والرعاية النهارية لأطفال التوحد على ثلاثة مستويات، كما يقدم الخدمات العلاجية والتأهيل المهني والرياضي.
وكما اهتم رجال الأعمال من أبناء هذ المدينة بالجانب الإنساني اعتنوا أيضا بمراكز العلم والمعرفة، وتوسيع قاعدة ثقافة العلوم التطبيقية في المجتمع، إذ زرنا «مركز العلوم» بعنيزة، الذي يشكل معلما ثقافيا مميزا، فهو يهتم بعلوم العصر وتجسيدها في وعي الأجيال الصاعدة، ويمزج الترفيه بالتعلم، ويجذب الطلاب وعشاق المعرفة للاطلاع على ما تحويه معامل الذكاء الاصطناعي والرياضيات والعلوم التطبيقية والفضاء والأحياء والبيئة، وهذا المركز تبلغ كلفته 100 مليون ريال، من تبرعات رجال الأعمال والأهالي (أسرة الزامل وغيرهم).
الرحلة فيها كثير من الصور المشرقة في القصيم وسدير وشقراء، لكن المساحة تحبس الاسترسال.
التعليقات