أمين طلال

باستثناء ما قدمه بضعة أشخاص يُعدون على الأصابع تجاه القضية الفلسطينية «ياسر عرفات، الملك فيصل، الشيخ أحمد ياسين، أنور السادات...»، باستثناء هذه الومضات لم يُقدم العرب لفلسطين في الستين عاما الماضية سوى الصراخ، كثير جدا من الأشعار العمودية والأفقية والرباعيات العروبية والإسلاموية، والأغاني الملحمية التي تساءل خلالها جمع من المطربين والمطربات بغضبٍ عارِم عن الشرف العربي وين، ووين الملايين؟، باستثناء لحظاتٍ عابرة من العقلانية كـ«مبادرة السلام العربية»، لم نقدم لفلسطين إلا العنتريات الفارغة والمزايدات الرخيصة، وسيلا جارفا من الشتائم المتدفقة من كل القنوات الإعلامية.
ستون عاما ظهر خلالها جيش من المجاهدين، يتسكعون في شوارع باريس، ويرتمون في أحضان طهران، ومن هناك يصرخون «قادمون، قادمون» ولم يأت منهم أحد حتى الآن إلا لذبح أهالي بغداد، ونحر رقاب أبناء دمشق، ومناضلون خنفشاريون بين ثورجيين عرابجة وعروبيين مرتزقة، يكيلون أقبح الشتائم لمن لا يلتزم بالدفع، ويركعون صاغرين لمن يدفع أكثر، هذا ما قدمناه خلال ستين عاما، هذا هو الفكر الذي قاد إلى الهزيمة، هذا مُلخص موجز عما قدمناه، جربنا كل أشكال الهدم والتحطيم، رغم أن كل المطلوب منذ البدء أن نصمت ونباشر البناء.
واليوم، بعد ضجيج السنين، قد بدأ البناء فعليا بقيادة السعودية، من هذه البلاد تخرج اليوم الدعاوى العلنية والصريحة بالهدوء والتعايش والسلام بين الجميع، بين المسلم واليهودي والمسيحي، بين الفلسطيني والإسرائيلي، والسعودية ليست بالبلد القابع في زاوية الخارطة إنما هي في القلب، وما يحدث فيها سيؤثر في الآخرين، إن سلبا أو إيجابا، والخطاب الذي يتبناه ولي العهد «محمد بن سلمان» اليوم سيغير ملامح الجميع، ستكفهرّ وجوه بلا شك، لكن في الأخير سيهيمن هذا الخطاب، لأنه خطاب عقلاني منطقي إنساني، خطابٌ لا مزايدات فيه ولا بكائيات ولا عروض بهلوانية. 
إن السلام والتعايش اللذين يدعو إليهما ولي العهد «محمد بن سلمان»، هذان ما سيضمنان تهيئة البيئة المناسبة للبناء، والبناء فقط هو ما تحتاج إليه القدس.
إن أعداء السلام يروّجون دوما لفكرة أن السلام رديف الخنوع والاستسلام، وأنه خيانة عظمى للقضية وللدماء الفلسطينية، وطبيعي من عاش ستين عاما على الخراب أن يتحول إلى مصاص دماء، يلعن السلام الذي يحرمه رؤية الدماء. 
إن الخراب في عرف هؤلاء مجال استثمار لا أكثر، والهدم يضمن لهم جني مزيد من الأموال، تُجار حرب وخفافيش ظلام، هؤلاء اليوم من يُعارِضون السلام الذي تدعو إليه السعودية.
اليوم، لا حل أمام المسلمين كي تنعم فلسطين بالأمان، إلا أن يصمت الجميع ويبدأ البناء، فـ«صلاح الدين» وقبل أن يتجه إلى القدس ظل لـ15 عاما يبني دولته، وأصلح النظام السياسي والاقتصادي والقضائي، وحارب الفساد وحاكم المفسدين، واهتم بالعلم والتعليم، وبعد أن فرغ من التأسيس والبناء والقضاء على المتخلفين، أتته القدس لا لأنه بات الأقوى عسكريا، إنما لأنه نجح في تحويل الدولة الأيوبية إلى دولة عظمى، وهذا لم يكن ليكون بغير البناء، والقدس لم تحتج يوما سوى إلى البناء.
خياران فقط أمام الفلسطينيين اليوم: إما أن يحولوا بصمت دولتهم إلى دولة قوية من كل النواحي، وهذا لن يتم إلا بالعلم والبناء ومحاربة الفساد على أرضهم، فإن لم يقدروا على هذا فلا حلّ أمامهم إلا أن يُجاوِروا ويستندوا إلى دولة قوية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وهنا يأتي دور السعودية. 
إن رؤية 2030 -لو قدّر الله لها النجاح- ستكون هي العامل الرئيسي لتحرير القدس، فالقدس التي تحررت بالأمس بقوة السلاح، ستتحرر اليوم بقوة التعايش، وأن يؤمن الجميع بأنها مدينة الجميع، ولا خيار آخر هنا.
لا خيارات متعددة، إما السلام والهدوء والتفرغ للبناء، أو الاستمرار في الصراخ والزعيق، إما عمليات البناء التي تجري في السعودية ومصر والإمارات، أو اللطم مع «حزب الله» وطهران، إما أن نتطلع إلى مستقبل يكون لنا فيه موضع قدم، إما السلام والتعايش أو البكاء مع «جناب السلطان» صباحا على القدس والارتماء مساء على شواطئ «تل أبيب»!.