غسان شربل 

كلما قال لي عراقي أو ليبي أو لبناني إنه عاد إلى بلاده كي لا يموت في الغربة، تنتابني مشاعر غريبة. هل القبر هو الخدمة الوحيدة التي تستطيع الخرائط المضطربة تقديمها لمن حاولوا ذات يوم تفادي الانخراط في مذابحها؟ وهل يعقل أن يتحول الوطن مجرد مشروع قبر للمغترب العائد وللمقيم المكابد؟ وهل تتحول الخريطة قبراً واسعاً حين تدمن الإقامة في بحر العصبيات والميليشيات والفشل والانحدار بعيداً عن دولة القانون ومؤسساتها وضماناتها؟ ومن يستحق الرثاء العائد الذي نجا ببعض عمره في الخارج، أم المقيم الذي بدّده كاملاً في الداخل؟


كان وحيداً في المقهى مع فنجان القهوة وحاسوبه. يبحر بين المواقع ويطلق أحياناً ابتسامة ساخرة. لم يلتفت حواليه موحياً برصانة من لا ينتظر أحداً. وكان وجوده في المكان غريباً. يفترض أن يكون اليوم في قريته ليؤدي واجبه. الانتخابات النيابية عرس وطني. هكذا تقول الشاشات. وتضيف أيضاً إنها فرصة ليقول المواطن كلمته. ليختار. ويقرر. ويشارك في صنع مستقبله ومستقبل البلاد التي ينتمي إليها.
يشمّ الصحافي سريعاً رائحة من لديه قصة تروى. هذا الرجل لا يريد شيئاً من بلاده. أخرجه العمر من سباق البحث عن المستقبل. لا يريد وظيفة ولا دوراً. يريد أن ينفق ما تبقى من السنوات في مكان طبيعي. وهذه أبسط حقوق المواطن حين يكون له وطن.
حزم الرجل حقيبته وعاد. أفسدته قراءاته في الغربة. أقنع نفسه بأن اللبنانيين تعلموا من التجارب المريرة. من الاحتراب الداخلي المدمر وآثامه. ومن الوصايات الخارجية وويلاتها. وكان شبه واثق أن الذين وُلدوا في ظل الحروب المتعاقبة لن يكرروا خطايا آبائهم. ولن يسقطوا في أفخاخ السحرة والمشعوذين وباعة التعصب والكراهية ونهش المال العام واستباحة ما تبقى من الدولة. وقال إن الجيل الجديد سيضخ دماً جديداً في عروق البلاد. وإن الوافدين من المدارس والجامعات لن يخفوا الخناجر تحت ثيابهم متحيّنين لحظة الفتك بزملائهم ومواطنيهم. 
عاد الرجل وأقام. كان يتوهم أن حضن الوطن دافئ. وأن اللبنانيين تعلموا. وسرعان ما اكتشف أن اللبناني العادي يُحتقر يومياً. في الشارع. وفي الإدارات. وعلى الشاشات. اكتشف أن بلاده تفقد معناها. وروحها. ودورها. وأن الانحدار يتسارع. بلاد نزفت ما كان يميزها. وعاصمة لم تكف منذ عقود عن التراجع والتقهقر. عاصمة كانت نافذة ووعداً وتحولت اليوم أسيرة لحروب الماضي. بلاد فتكت الشيخوخة بكتبها وأفرادها ومجموعاتها. دمها مستباح على أيدي الفاسدين والعاجزين والمغامرين. وحتى الذين توهم بعض الناس أنهم يشكلون وعداً انقضوا على الوليمة بجوع عتيق، وستضاعف الخيبة منهم تدهور المؤسسات، وستطيح ما تبقى من حصانة البلاد والعباد.
يقلّب الصحف والشاشات ويرجع موتوراً. ما هذا القحط؟ لا تعثر على بارقة. ولا تعثر على فكرة تقدم. بلاد تلفظ أبناءها وتواصل اندحارها. يذهب الآخرون إلى التنمية والتقدم وتذهب هي إلى مستنقعات الأفكار الفاشلة، مستعذبة تجريب المجرب. قحط رهيب. لوائح انتخابية تحمل عدداً غير قليل من الفاسدين والوقحين والمرتكبين. والجمهور يصفق. حروب عتيقة وصغيرة في منطقة ملتهبة تغص بالقتلى والتدخلات وأمواج اللاجئين. كأن موسم الانتخابات هو موسم إشهار الإفلاس الوطني. ها هو لبنان ينكمش ويتقلص وينحسر. فتيان مغرورون تنقصهم الخبرة والتجربة والحصانة الأخلاقية والوطنية. فتيان يصل بهم جهلهم التاريخ إلى حدّ تفخيخ الحاضر والمستقبل. شراهة بلا حدود. لا يتورعون عن فتح الجروح ورش الملح فيها طمعاً بحفنة أصوات ومقعد في برلمان خبر اللبنانيون فساده وحدوده.
لا معنى للحنين إلى لبنان القديم؛ فلو كان قادراً على الاستمرار في الحياة لما كنسته العاصفة. لكن من المريع فعلاً أن تكون البدائل من هذه القماشة. يتقدم الآخرون. يتحركون من أجل بناء دولة. من أجل صيغة استقرار وازدهار. ويبقى اللبنانيون أسرى القواميس التي قتلت أبناءهم وكرامتهم ودولتهم. لا كرامة لخريطة تعيش بلا دولة. خريطة تقتات من ألاعيب صغار السياسيين وقدرتهم على خداع الناس والاستيلاء على ما تبقى في الخزينة المنهوبة بلا رحمة.
اغتالت الحرب بعضاً من روح لبنان، وها هو السلم الدجال يغتال ما بقي منها. الهدنات في غياب الدولة وعلى أنقاض فرص قيامها هي عملية اغتيال موصوفة. لا كرامة بلا دولة تستحق التسمية. غياب الدولة يعني تسليم المفاتيح للكهوف القديمة المعتمة. غياب الدولة يعني أن تتحسس المجموعات دائماً خناجرها، وأن تعد قبوراً جديدة لأطفالها. 
ما أقسى الاستحقاقات الديمقراطية حين تؤكد الإصرار على الانحدار. حين ينقض بعض السياسيين الفاعلين على الانتخابات انقضاض القراصنة على سفينة تنقل الذهب. يكاد المرء يلمح من بعيد أظافر مسنونة كالرماح، وعيوناً مطبوخة بالشراهة، وضمائر تكلّست من فرط ما وارت من الارتكابات. 
هذه خرائط مجرمة تعاقب المواطن مرة حين يغادر، وأخرى حين يرتكب خطأ الاستسلام لحنينه. ومع ذلك، لن يرجع إلى فرنسا. نفدت رفاهية المغامرة وتبديد السنوات. سينتظر السبعينات على السفينة المثقوبة. هذه الخريطة المريضة لن تبخل عليه بقبر. يفتح يديه على شكل سؤال ويقول: هذه بلادي ولكن يا للهول.